لم يكن تاريخ السادس عشر من تشرين الأول عام 2015 يوماً عادياً بالنسبة للسيدة “سهام المحمود” اسم مستعار لمعتقلة سابقة في سجون النظام، إذ كان يوماً فاصلاً بين مرحلتين من حياتها، قضت خلالهما ثلاثة سنوات وراء القضبان، متنقلة بين عدد من الأفرع الأمنية للنظام في دمشق.
“سهام” معلمة سابقة، أم لأربع فتيات صغيرات، من أهالي ريف دمشق، اعتقلت في كمين لأحد الحواجز الطيارة عند طريق (وادي بردى- الأشرفية) أثناء ذهابها إلى بلدة عين الفيجة، والتي كانت ماتزال تحت سيطرة الثوار آنذاك، وذلك بسبب تقرير كيدي كتب بها من قبل إحدى زميلاتها في العمل، بسبب مواقف “سهام” من الثورة و معارضتها ضمنياً للنظام.
دخلت المعتقل برفقة ابنتها الصغيرة “جود” ذات الثلاث سنوات، واختفت بعد ذلك أخبارها عن زوجها وذويها الذين بحثوا عنها طويلاً في مختلف الأفرع الأمنية وأجهزة المخابرات، دون فائدة، وبعد دفع مبالغ طائلة كما أخبرتنا تمكنوا من معرفة مكانها في فرع المخابرات الجوية، في حين أودعت طفلتها بعد دخولهم المعتقل في جهة مجهولة بعيداً عنها.
بقيت “سهام” تصارع مرارة الاعتقال وحرمانها من ابنتها وباقي أسرتها وخوفها من مستقبل مجهول يمضي بين جدران السجن، تقول “كان عذابي مضاعف، وتفكيري محصور في عائلتي وبناتي وطفلتي البعيدة عني، بالوقت الذي تعرضت فيه للتعذيب الجسدي والنفسي والتحرش، ومختلف الانتهاكات التي تتعرض لها المعتقلات في السجون”.
“سهام” واحدة من 9774 امرأة، ما زلن قيد الاعتقال والاختفاء القسري، ومنهن 8096 مغيبات في سجون ومعتقلات النظام، حسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، في حين تشير الوقائع أن العدد الحقيقي أكبر بكثير بسبب صعوبة توثيق المعتقلين/ات.
بعد دفع مبلغ تجاوز عشرين مليوناً، لأحد الضباط بوساطة محامي مقرب من الطرفين، تمكنت عائلتها من إخراجها كانت قد دفعت ثلاث سنوات من عمرها في السجون، نالت حريتها بعد ذلك بالوقت الذي ماتزال فيه آلاف المعتقلات والمغيبين قسرياً داخل السجون.
فور خروجها التحقت “سهام” بعائلتها في الشمال السوري، كانوا انتظارها بعد أن تهجروا قبلها بعامين واستقروا في أحد قرى ريف إدلب.
تقول لنا :”عند إقامتي في القرية كان عشرات الأطفال بلا مدارس، ومنهم من لا يتقن القراءة والكتابة وقد تجاوز العاشرة من عمره، وأطفال آخرون يمضون وقتهم بعيداً عن التعليم، فما كان مني إلا أن بدأت بجمع الأطفال في منزلي، وتعليمهم مبادئ القراءة وكتابة الأحرف بمقدار ساعتين كل يوم تقريبآً”.
لم تعتد “سهام” على البقاء دون عمل في المنزل، كونها تحب مهنتها كثيراً، ولاسيما أن الأطفال اليوم بحاجتها أكثر من ذي قبل، أينما كانت، فالبيئة المحيطة بها تفتقر لكثير من أساسيات الحياة، منها مرافق التعليم، ورياض الأطفال، وهنا بدأت محطة جديدة في حياتها.
تخبرنا أنها خصصت غرفة من منزلها المتواضع للأطفال، وبدأت بتدريس عشرات الطلاب، من الصفر، فالغالبية لديهم ضعف في القراءة والكتابة والحساب، ثم بدأ العدد يكبر وبدأت نتائج تعبها تثمر.
لم تلجأ “سهام” إلى المدارس للتدريس، بسبب فقدان جميع أوراقها الثبوتية وشهادتها العلمية، وصعوبة استخراج وأوراق أخرى من مناطق النظام، ففضلت التدريس في المنزل بجهد ذاتي، إلى أن أصبح عدد طلابها كبيراً ويحتاج إلى منزل آخر، وكان عملها تطوعي ومجاني، طالما عرفت بأعمالها التطوعية، تقول لنا إن “الربح الكبير هو إنقاذ جيل من الجهل الأمية، كان فريسة الحرب والنزوح والتسرب المدرسي” .
اليوم تشرف “سهام” بمساعدة عدة معلمات متطوعات روضة خاصة بالأطفال، ومعهد تدريبي للفتيات، يدرس فيه اللغة العربية، والقراءة العلاجية، والرياضيات، واللغة الإنجليزية، إضافة إلى حفظ أجزاء من القرآن الكريم مقابل أجور رمزية تدفع لقاء تعويض بسيط للمعلمات المتطوعات.
لم تكترث “سهام” للوصمة الاجتماعية التي طالت عدداً من الناجيات، بل كانت تستمد قوتها من الأيام القاسية التي عاشتها في المعتقل، وكانت نساند قضية المعتقلين في كل مناسبة، وتخصص جزء من وقتها للحديث عن الثورة وقضية المعتقلين أمام طلابها، وتشعر أنها تحمل أمانة اتجاه بافي المعتقلين/ت الذين ما يزالون في المعتقلات.
سهام واحدة من النساء السوريات اللواتي حولن الصعوبات التي واجهتهن إلى فرص للنجاح والإصرار على التميز والعطاء، واستطاعت أن تفعل دورها بما تملكه من خبرات ذاتية، وتصنع لها وسط الزحام.