لا يقتصر مفهوما النكبة والنكسة على القضية الفلسطينية وحدها، فبالتزامن مع المأساة الفلسطينية، كانت المأساة السورية تتشكل في العمق دون أن تبدو واضحة على السطح.
وإنه لمن المفارقة بمكان أن تأتي ولادة حزب البعث في سورية قبل عام واحد على نكبة فلسطين وإعلان احتلالها رسمياً، وكأن ذلك الاحتلال كان الثمرة الأولى لولادة الحزب “العملاق”.
قد تكون مصادفة وقد لا تكون، ولكن ولادة حزب البعث كانت التاريخ الحقيقي لبداية النكبة السورية المستترة والتي جاءت كسرطان خبيث يكمن في الجسد السوري دون أن يترك دلالة واضحة على وجوده، ولكنه أخذ يكبر وينتشر ويستشري إلى أن داهم سورية والسوريين معاً في لحظة لم يعد يجدي معها أي نوع من العلاج.
ها هنا يختلف وقع المأساة السورية وطعم نكبتها عن المأساة الفلسطينية التي كانت واضحة ومباشرة ومكشوفة، أما في الحالة السورية فكان سرطان النكبة أكثر خبثاً وأشد فتكاً.
نكبة حزب البعث على سورية والسوريين، لم تتمثل في بنيته وشعاراته وخطابه وأهدافه، فالنظرية التي أسس لها الحزب تبدو شديدة التماسك، وربما كانت نظرية متكاملة لا غبار عليها، غير أن خطورة الحزب وسرطانيته التي قضت في نهاية المطاف على سورية تكمن في نقطتين:
الأولى هي الممارسة العملية لتلك المنطلقات النظرية، والتي جعلت الحزب متناقضاً بالمطلق مع أهدافه، بل وكأنه ينفذ مقولاته بشكل مقلوب تماماً، فشعاره الأساسي المتمثل في الوحدة والحرية والاشتراكية، أدى إلى التفرقة والقمع واستيلاء مجموعة محددة من أتباع الأسد على المال السوري وثروات الشعب، وعلى ذات النسق تم تنفيذ كل المنطلقات النظرية الأخرى.
والنقطة الثانية والأهم، هي أن حزب البعث تحول لأداة وواجهة لمجموعة من اللصوص والقتلة الذين أبَوا إلا أن يأخذوا البلد إلى الهاوية في نهاية المطاف، تحت غطاء الوطنية والقومية محميين بشعارات طنانة يخبؤون خلفها كل الفساد والإجرام الذي تأصل في زمن حزب البعث ولا سيما حينما ترأسه الرفيق القاتل الخالد حافظ الأسد..
وإذا كانت المصادفة وحدها هي التي جعلت ولادة الحزب تسبق النكبة الفلسطينية بعام واحد، فليس من المعقول أن تتكرر تلك المصادفة في العام ١٩٦٧، ليكون استيلاء حافظ الأسد على السلطة -قبل استلامها رسمياً عام ١٩٧١- متلازمة متكاملة العلاقة مفهوم النكسة.
وإذا كانت ولادة حزب البعث هي اللحظة ذاتها لولادة النكبة السورية، فإن صعود حافظ الأسد إلى موقع القرار السياسي في ذات عام النكسة، هو أساس النكسة السورية، والتي جاءت أيضاً متلحفة بشعارات الحزب الطنانة، والتي دأبت على تحويل الخيانة إلى نصر مبين.
ربما لم يجرؤ حافظ الأسد حينها على الادعاء بأن احتلال الجولان كان انتصاراً على إسرائيل، ولكن وريثه امتلك الوقاحة الكافية ليفعلها ويجعل من كل صاروخ يطلق على سورية، إنجازاً بطولياً ويتم التأريخ له كانتصار، تحت تهديد السلاح.
في هذا السياق، تبدو المأساة الفلسطينية في نكبتها ونكستها بما فيهما من ألم وجراح عميقة، تبدو كأنها نزهة بالمقارنة مع المأساة السورية، فقد كان حسن حظ الفلسطينيين أنهم ابتلوا بعدو صريح، خصم له مشروعه المحدد والمعلن قبل البدء في تنفيذه، وهو ما دفع بالفلسطينيين إلى خوض صراع تقليدي كثيراً ما حدث في تاريخ الشعوب، فالاحتلال الإسرائيلي المباشر والعداء الصهيوني للفلسطينيين شكل معادلة من طرفين، صحيح أنهما غير متكافئين، ولكنهما شديدا الوضوح.
غير أن المأساة السورية تكمن في كون المحتل محلياً ومحسوباً على السوريين، وهو الأداة والعميل والقاتل بالنيابة، وقد شكل الأسد حالة غدر غير مسبوقة، حيث لم يكتف بقتل السوريين وحده، وإنما استجلب قتلة خارجيين للمساهمة في المقتلة، والأنكى هو أن المحرقة السورية يتم تصديرها بالقوة على أنها الطريقة المثالية للدفاع عن الوطن، وعندما جاءت الاحتلالات المتعددة لسورية تم منع السوريين من الدفاع عن وطنهم بل تم قتلهم وتصفيتهم وإبادتهم لصالح العدو الحقيقي للبلد.
النكبة الكبرى التي ابتلي بها السوريون، ابتدأت فعلياً منذ استيلاء الأسد الصغير على السلطة، وبصرف النظر عن الطريقة التي حكم بها بشار الأسد سورية في الأحد عشر عاماً التي سبقت الثورة عليه، فإن فكرة التوريث وحدها، وفرضها بالقوة على الشعب السوري، ومن ثم محاولة طمس معالم التوريث والتعامل مع الأسد كرئيس بحكم الأمر الواقع، كل ذلك كان بمثابة نكبة ونكسة في آن معاً.
النكبة الكبرى التي ابتلي بها السوريون، ابتدأت فعلياً منذ استيلاء الأسد الصغير على السلطة، وبصرف النظر عن الطريقة التي حكم بها بشار الأسد سورية في الأحد عشر عاماً التي سبقت الثورة عليه، فإن فكرة التوريث وحدها، وفرضها بالقوة على الشعب السوري، ومن ثم محاولة طمس معالم التوريث والتعامل مع الأسد كرئيس بحكم الأمر الواقع، كل ذلك كان بمثابة نكبة ونكسة في آن معاً.
وعلى غرار النكبة والنكسة، جاء العدوان الثلاثي على سورية والذي شارك فيه الأسد الابن كطرف أساسي، بالإضافة إلى روسيا وإيران، ووهو العدوان المستمر منذ سبع سنوات، وتحول هذا العدوان الثلاثي إلى “عدوانات” ثلاثية، بل عدوانات جماعية تضرب في الأرض السورية خبط عشواء ويتنطع بعدها “الرئيس الضاحك” ليجني مغانم تلك الضربات ويحولها لانتصارات دون الشعور بالحد الأدنى من الخجل.
لقد أضاع الأسد القضية السورية تماماً كما ضيّع سورية وشعبها عبر ارتهانه لكل القوى الطامعة، والمستعدة لحمايته إلى أن تتحقق مصالحها بالكامل، وهنا يكون السوريون أمام نكبة ناسخة، نكبة تجعل من كل النكبات والنكسات والعدوانات الثلاثية التي مورست ضد الفلسطينيين والعرب في السابق مجرد أحداث لا تذكر بالمقارنة مع مأساتهم الحاضرة والمستمرة فصولاً إلى أجل غير محدد، طالما بقي الأسد في السلطة.