كسرت المعلمة “سوسن العبار” ابنة مدينة داريا في ريف دمشق، الصورة النمطية للتعليم التقليدي القائم على التلقين والحفظ البصم، بغض النظر عن الفهم أو الإدراك، وبعيداً عن أسلوب العقاب المنفر، أو الثواب والمكافآت، فقط يتم الاعتماد على التجربة الشخصية والتعليم باللعب والأنشطة.
امتهنت “سوسن” التعليم أثناء دراستها الجامعية 2003، وبعد تخرجها من قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق، توجهت نحو التعليم، وتركت بصمة مميزة في المدارس التي التحقت بها، ومع بداية الثورة وبسبب نشاطها الثوري توقفت عن العمل وبدأت مشروعها الخاص في مدينة داريا المحاصرة من قبل النظام مع بدء الحراك الشعبي، وهو تعليم الأطفال هناك، ثم مع مر مرحلة التهجير إلى الشمال السوري، تابعت المعلمة مهنتها ونشاطها والتعليمي هنا في المنطقة.
خلال هذه الفترة، بقيت “سوسن” تمقت الأسلوب التقليدي في التعليم، وتبحث عن طرق مغايرة تعتمد على الفهم والتجربة والإدراك، بعيداً عن الواجبات والوظائف والحفظ والتلقين، إلى أن وجدت ضالتها بتعلم منهج “ماريا منتسوري” التعليمي وتطبيقه على أطفال المرحلة التحضيرية.
يعرف منهج “مونتيسوري” بأنه نظام تعليمي متكامل له فلسفة خاصة به بتعليم الطفل، في بيئة اجتماعية تدعم وتغذي أنماط التطور الخاصة به، وعلى الإنسان أن يكون مستعدًا للتعلم بنفسه وإلا لن يتعلم مطلقاً.
تعمقت” سوسن” بمساعدة زوجها، وهو خريج قسم الجغرافيا، ومعلم أيضاً، في معرفة المنهج عن قرب وفهم فلسفته، عن طريق قراءة الكتب الخاصة به، وحضور دورات تعليمية لشرحه، ثم بدأت تحضّر بنفسها فكرة إنشاء روضة أطفال في مدينة “سرمدا” شمال إدلب على نهج المنتسوري، تحمل اسم “روضة دار الفرح”، وسط مخاوف كبيرة من ردة فعل الأهالي، كونهم غير معتادين على هذا النمط من التعليم، وقد واجهت صعوبات كبيرة في إقناعهم حسب ما أخبرتنا.
تقول عن تجربتها التي بدأت بها منذ عامين، إنها “كانت تحدي كبير بالنسبة لها ولعوائل الأطفال الذين سجلوا معها في الروضة، وأثبتت نجاحها بجدارة وبشهادة جميع أمهات الأطفال الذين درستهم، بعد أن أصبح الطفل ذو شخصية قوية، يمتلك مهارات عدة، ويحب التعلم بعيداً عن الواجبات اليومية والإجبار الذي يقوم عليه المنهج التقليدي المعروف في المدارس ورياض الأطفال.
تحدثنا المعلمة “سوسن” عن أهم ما يميز روضتها، تقول: إن “الطفل يختار النشاط الذي يفضله ويكسب المعارف والمهارات من خلال التجربة بنفسه،مع إشراك حواسه الخمسة بالمراقبة والممارسة والفهم والإدراك، عن طريق الأنشطة والألعاب، و بأسلوب تعليمي توجيهي يقوم على إسقاط الأفكار على الأحداث الواقعية وتطبيقها بشكل عملي”.
إضافة إلى اكتساب الطفل حصيلة لغوية قوية من خلال قراءة القصص المتنوعة، بأسلوب ممتع وشيق يجذب الطفل، ومن خلال فهم العبر منها، ولفت النظر إلى قواعد اللغة العربية خلال ذلك، مثل استخراج أسماء الإشارة، والجمع، فضلاً عن تعلم النطق السليم من مخارج الحروف، إضافة إلى تطبيق القيم الدينية والأخلاقية من خلال الأنشطة اليومية لجميع الأطفال مع بعضهم البعض، دون التفرقة بين طفل وآخر وخلق الحقد بينهم أو إثارة الحساسية، فالأطفال حسب قولها، كلهم مميزون ومبدعون، دون الحاجة إلى تفضيل أحدهم على البقية والشعور بالنقص أو الكسل أو الدونية كما يحدث في المدارس التقليدية.
تخبرنا السيدة “سارة مصطفى” والدة إحدى الأطفال في الروضة، بعد عامين من تسجيل طفلها فيها، أنها بدأت تقطف الثمار، وأصبح طفلها وهو في الخامسة من عمره قادر على القراءة والكتابة بدون أن يقوم بواجب منزلي واحد، ودون أن تجري له المعلمة إملاء وتضع له الدرجات المتفاوتة، وحتى دون أن يبكي من آلم يديه لطول الوظائف المطلوبة منه يومياً.
تقول: إن “الإملاء والواجبات والعلامات، وتكريم الخمسة الأوائل لن ينتج لنا جيلاً عبقرياً، بل ستكون الغاية منه المنافسة بين الطلاب والحصول على علامات مرتفعة وليس تحصيل العلم والمعرفة واكتساب المهارات” .
تستقبل الروضة الأطفال من عمر 3 إلى 6 سنوات، دون أن تفرزهم إلى فئات حسب العمر والمعرفة، بل يجلسون معاً ويتعلمون من بعضهم، دون وجود مقاعد تقيد الطفل بجلسة معينة، أو وقت للحصة التعليمية، ويوجد في الغرفة رفوف بمتناول الأطفال يختاروا منها الوسائل التعليمية والقصص، فهي حسب قول “سارة” ليست حبيسة غرفة الإدارة، أو رهن اختيارات المعلمة، بل الطفل يختار الطفل ما يثير فضوله، وحب الاكتشاف والتعلم لديه من مجموعة الكتب والقصص الموجودة، والتي تقوم المعلمة بقراءتها للطفل وشرحه له بأسلوب مبسط ليستوعبه.
تضيف أن الأطفال هنا يتعلمون بأنفسهم مهارات عديدة مثل القص والتلوين والترتيب وغسل الصحون، ويتعلمون المشاركة واللعب والتعلم مع بعضهم البعض.
سارة و17 أم آخرين آمنوا بقدرة المعلمة “سوسن” على إحداث تغيير في طرق التعليم التقليدية، تقول بعد عامين من التحدي والإصرار وجد الأهالي تميز كبير عند الأطفال، وتطور في مدركاتهم ومهاراتهم وقدراتهم، وهذا ما أكدته التجربة، فقد اهتمت الروضة بأدق التفاصيل لكل طفل، فهو ليس مجرد رقم، بل كل طالب لديه اهتمام بمستواه ورغباته، وكأنه درس خصوصي، غير أن الطفل هنا يتعلم من الآخرين، وتكون الغيرة المحمودة حافزاً لهم للاستمرار، بدون مقارنة محبطة أو منافسة متعبة.