لم يكن تجاوز كارثة الزلزال والتعافي منه بالأمر الهين على “ندى” 34 عام، الناجية الوحيدة من عائلتها ليلة السادس من شباط العام الماضي، حيث كان منزلهم في مدينة سلقين بريف إدلب الغربي، أشبه بمقبرة جماعية ضمت معظم أفراد عائلتها وأهلها ذلك اليوم.
كانت الممرضة “ندى” على رأس عملها بمناوبة ليلية في المشفى الذي تعمل به في مدينة إدلب، حين وقع الزلزال تقول: إن عقلها لم يستوعب حجم الكارثة، وكانت تهدأ المرضى وتخفيف من روعهم في اللحظات الأولى لوقوع الزلزال، دقائق قليلة حتى ضج هاتف ندى بالاتصالات من أقاربها للسؤال عنها وعن عائلتها في سلقين، باعتبارها أحد المناطق الأكثر تضرراً بالزلازل، وهنا كانت الصدمة.
تقول” ندى” التي تسكن وزوجها وأطفالها الثلاثة في بناء واحد مع أهلها وابنة أخيها، إن “المنزل وقع فوق رؤوسهم جميعاً وتسبب بموت أمها وأبيها وابنة أخيها الصغيرة، وموت اثنين من أطفالها، في حين نجا زوجها وابنتها بأعجوبة، وكانت إصاباتهم بليغة، ما يزالون يعانون منها حتى اليوم”.
آلاف المصابين والناجين من الموت بقيت آثار الصدمة النفسية عليهم، رغم مرور عام على الكارثة التي شهدها الشمال السوري، وراح ضحيتها أكثر من ألفي شخص، وبذلك الوقت أعلن الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) حالة الطوارئ القصوى لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض في 182 موقعاً ضمن 60 مجتمعاً، فيه أكثر من 580 مبنى مهدم كلياً وأكثر من 1578 مبنى تهدم بشكل جزئي حسب تقريرهم الصادر في الذكرى الأولى للزلزال.
وتمكن متطوعو الدفاع المدني السوري من إنقاذ 2950 شخصاً من تحت الأنقاض بينما انتشلوا 2172 ضحية للزلزال، حيث شارك في هذه العمليات أكثر من 3000 من كوادر الخوذ البيضاء منهم 2500 متطوع و 300 متطوعة و 200 موظف إداري، مع تعبئة كاملة للآليات الثقيلة والمعدات اللازمة، بالإضافة إلى استئجار عدد من الآليات الثقيلة من الأسواق المحلية.
خسرت “ندى” وعشرات آلاف الأشخاص في المناطق المنكوبة أفراداً من أسرهم، وأقاربهم، ومنازلهم ومصادر رزقهم، وكان الزلزال أكبر كارثة إنسانية يعيشها الأهالي بعد 12 عام من الحرب النزوح والتهجير.
تقول “ندى” إنها لم تسطتيع استعادة توازنها واستيعاب ما حدث إلى بعد أشهر طويلة، حيث اعتزلت العمل في القطاع الطبي، وانتقلت مع زوجها وابنتها الناجية للسكن في منطقة أخرى، محاولة الابتعاد عن مكان الحدث الذي يسبب لها صدمة نفسية كلما مرت من جانبه، تخبرنا أنها “كانت تلوم نفسها بسبب بقائها على قيد الحياة بعد وفاة أطفالها وأهلها، وتمنت لو أنها كانت معهم في ذلك اليوم، ربما خفف ذلك من صدمتها”.
أصيب “ندى” بصدمة نفسية قوية، فقدت على إثرها قدرتها على القيام بعملها، وواجباتها المنزلية، وشغفها بالحياة، وحبها للعمل، وتفرغت لرعاية طفلتها وزوجها، وبقيت قرابة ستة أشهر على هذه الحال، تقول: إن “حالة اكتئاب وحزن شديد سيطرت عليها، ولم تستطيع التعافي منه إلى باللجوء إلى عيادات الصحة النفسية وبعد إصرار من زوجها”.
بالتدريج، وبعد عدة أشهر قررت “ندى” مثل كثير من الأشخاص الناجين، الذين وقفوا على أقدامهم بعد إحساسهم بالعجز، مواجهة أحزانها، وتغلبت على مخاوفها وحالتها النفسية، وعادت إلى العمل، وساعدها ذلك في التحسن بشكل أكبر من خلال مساعدة المرضى والتخفيف من آلامهم ومواساتهم، خاصة أن المصاب كان كبيراً لآلاف الأسر المتضررة.
تقول “ندى” في ختام حديثها: إن “الصبر، ومواساة النفس رغم عظم المصاب، والأمل بلقاء أطفالها وأهلها في الجنة مع الشهداء، كانوا سبيلها إلى الخلاص من الحزن الشديد” ، تكمل إن “شعباً اعتاد على الموت بمختلف الأسباب طيلة السنوات الماضية، هو قادر على تجاوز محنة الزلزال، و بناء ما تدمر، بالتحلي بالصبر والعزيمة والإيمان بقضاء الله وقدره”.
عام ثقيل مر الأهالي في الشمال السوري، منذ الزلزال وحتى الذكرى الأولى له، حين استفاقوا على رائحة الموت والدمار في معظم الأماكن، في تمام الساعة 4:17 حيث ضرب الزلزال المدمر بقوة 7.8 درجات، مناطق شمالي سوريا وجنوب تركيا، مخلفاً آلاف الضحايا والمصابين، فضلاً عن خسائر مادية ضخمة في منطقة تطحنها رحى الحرب منذ 12 عام، وتعيش ظروف قاسية، في بيئة تفتقر إلى البنية التحتية، وسط ضعف في الاستجابة وتقديم الدعم الكافي لهم.