قبل أن تدخل مدينة سرمدا شمال إدلب عند الدوار الكبير، يواجهك عشرات الأطفال لا تتجاوز أعمارهم 14 عاماً متوزعين بين المواصلات العامة وسائط النقل، وعلى مفارق الطرقات، منهم من يحمل علبة بسكوت صغيرة يسعى لبيعها بشتى الطرق، ومنهم من يَهُم بمسح واجهة السيارات بانتظار أي مبلغ مقابل خدمته، ومنهم من يطلب منك المال مباشرة، إذ بات هذا المشهد واقعاً فرضته الظروف المعيشية المتردية في الشمال السوري.
حيث تشكل ظاهرة عمالة الأطفال واحدة من أكبر التحديات التي أفرزتها الحرب وسنوات النزوح وسوء الوضع الاقتصادي والمعيشي في المنطقة، لاسيما أن كثيراً من العوائل الفقيرة وذات الدخل المحدود باتت ترسل أطفالها الصغار إلى سوق العمل، بدلاً من المدرسة، للمساهمة في تأمين لقمة العيش واحتياجات الأسرة ومنهم من امتهن التسول في الطرقات والشوارع العامة والأسواق دون الالتفات من قبل سلطات الأمر الواقع لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة.
“محمود” 13 عاماً، واحد من الأطفال الذين بات وجهه مألوفاً لدي مع عدة أطفال آخرين، يوجدون بشكل دائم عند دوار مدينة سرمدا كونه مفرق لأربع جهات، ويشهد حركة مرورية كبيرة، حيث يقف أمام السيارات ويقوم بمسح الواجهة الزجاجية والنوافذ ولا يثنيه رفض صاحبها عن التوقف، بل يكمل مسحها ثم يقف بانتظار أي مبلغ مقابل ذلك مع ترديده عبارات الشكر والدعاء.
يقول لنا عندما قابلناه بصوت مخنوق “أنا لا أشحد” أنا فقط أعمل بمسح السيارات كي أجمع ثمن خبز وطعام لأخواتي وأمي، فهم بانتظاري في المخيم آخر النهار، ويجب أن أعمل كي نأكل، وأنا على هذا الحال منذ أربع سنوات بعد وفاة والدي.
يحصل “محمود” آخر النهار على مبلغ قليل لا يتجاوز 50 ليرة، يقول إنها بالكاد تكفي لشراء ربطتي خبز وكيلين بطاطا لصنع وجبة طعام واحدة! إذ تواجه مئات آلاف العوائل في الشمال السوري لاسيما قاطني المخيمات العشوائية، ظروفاً قاسية تزداد سوءاً في فصل الشتاء، مع تقليل الدعم الإغاثي والمساعدات الإنسانية المقدمة خلال الأشهر الماضية، ما رفع معدل الفقر والحاجة لدى الأسر الفقيرة، وزاد من عمالة الأطفال كحال الطفل “محمود” الذي يقضي نهاره على الطرقات العامة بين السيارات بدلاً من وجوده في المدرسة والمنزل الدافئ، وكذلك حال عشرات الأطفال الموجودين في المنطقة الذين قتلوا طفولتهم مبكراً واتجهوا نحو العمل في بيئة قاسية.
في هذا السياق تخبرنا ” نجلاء” عاملة في مجال حماية الطفل بإحدى منظمات المجتمع المدني في إدلب، أن “العمل في سن مبكرة يحرم الطفل من طفولته، ويؤثر بشكل سلبي على مستواه التعليمي، بل يعد أحد أبرز أسباب التسرب المدرسي واللجوء إلى سوق العمل وبالتالي يؤثر على نموه العقلي وإدراكه، وعلى صحته الجسدية والنفسية”.
وتطفو النتائج والآثار السلبية لظاهرة عمالة الأطفال
بوجودهم في بيئة عمل غير آمنة ولا مناسبة لهم ولاسيما في الظروف المناخية الباردة، إذ يتعرضون إلى مخاطر جسدية وأضرار نفسية، فضلاً عن تعرضهم إلى العنف، والإصابات الجسدية والاستغلال من قبل أصحاب العمل، إذ يفضل كثير منهم الأطفال الصغار بسبب أجرتهم الزهيدة، و نشاطهم وخفة حركتهم وبالتالي يتم استغلالهم بشكل واضح.
حيث كشفت سنوات الحرب الماضية عن نسب كبيرة من توجه الأطفال إلى سوق العمل في الشمال السوري، وذلك بسبب تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية لغالبية المواطنين، وفقدان المعيل، ما جعل الحمل على الأطفال كبيراً جداً.
وتقترن ظاهرة عمالة الأطفال التسرب المدرسي حيث يؤدي العمل في سن مبكرة إلى حرمان الأطفال من حقهم في التعليم، ويعد سبب رئيسي لتسربهم من المدارس، إذ كلما زادت نسبة الأطفال العاملين، زادت نسبة التسرب المدرسي.
وأكد تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، الصادر نهاية العام الماضي أن قرابة 2.4 مليون طفل خارج المدرسة في سوريا، تراوحت أعمارهم بين 5 و17 عامًا، حيث شملت هذه الإحصائية جميع مناطق سوريا، ويمثل عدد الأطفال خارج المدرسة نحو نصف عدد الأطفال في سن الدراسة، البالغ عددهم 5.52 مليون طفل.