في إحدى منازل بلدة عقربات شمال إدلب، وعلى كرسيها الصغير في حديقة منزلها، تجلس السيدة الخمسينية “أم محمد القادري”، تحيط بها أدواتها الفنية المتنوعة، ترتدي نظاراتها الطبية بعناية، وتبدأ في تحضير أدواتها للعمل اليومي، أمامها خرز وخيوط ملونة، وأسلاك صغيرة، وإبرة خياطة، ومقص، وأشياء أخرى ضرورية لصنع قطع فنية فريدة، كان آخرها حقيبة يدوية من حبات اللؤلؤ الأبيض، تشع بأناقة وبساطة في آنٍ واحد.
تعيش “أم محمد” مع عائلتها في هذه البلدة منذ تهجيرها من وادي بردى بريف دمشق قبل عدة سنوات، تقول بحسرة: “التهجير ترك بصمة ألم كبيرة في ذاكرتي، لم يكن الأمر سهلاً أن تترك منزلك وأرضك بعد خمسين عامًا من الحياة فيها، حاولت أن أنشغل عن تلك الذكريات المريرة من خلال الأعمال اليدوية، إنها وسيلتي للهروب من الماضي وأملي في العودة القريبة”.
تعلمت “أم محمد” أنواعاً مختلفة من الفنون اليدوية منذ صغرها، وأصبحت تتقن حياكة الصوف والتطريز والخياطة وإعادة التدوير، تقول بفخر: “لطالما كنت شغوفة بصنع قطع فنية للزينة والديكور المنزلي، ورغم أن هذه الأعمال متعبة وتسبب لي آلاماً في الظهر، إلا أنني لا أستطيع التوقف، أخلط في أعمالي خبرة الماضي مع لمسة عصرية، دائماً أتابع وأبحث عن كل جديد في مجال الفنون اليدوية لأطور مهاراتي”.
ليست “أم محمد” وحدها من تلجأ للعمل اليدوي كوسيلة للتغلب على ظروف الحياة الصعبة، نساء كثيرات في سوريا، وخاصة في المناطق المتأثرة بالحرب، يؤسسن مشاريع صغيرة في منازلهن، تتنوع بين التطريز، وحياكة الصوف، والخياطة، وإعادة تدوير بعض الأشياء البسيطة لصنع مجسمات وقطع فنية، ومع ذلك، فإن هذه الأعمال تواجه تحديات كثيرة، أبرزها صعوبة التسويق وبيع المنتجات، تقول “أم محمد”: “الناس يحبون الأعمال اليدوية، لكنها غالباً لا تباع كما نأمل، مما يصعب علينا تأمين ثمن المواد والاستمرار في العمل.”
مع اشتداد الظروف المعيشية في شمال غربي سوريا، لم يعد العمل اليدوي بالنسبة لـ “أم محمد” مجرد هواية، بل أصبح مصدر دخل رئيسي لها ولأسرتها، توضح قائلة: “بدأت مؤخراً بصنع حقائب يدوية نسائية وبيعها من خلال منصات التواصل الاجتماعي، هذا العمل يساعدني على مساعدة أسرتي وتأمين دخل إضافي، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.”
في ظل هذه الظروف القاسية، تصارع النساء السوريات من أجل إعالة أسرهن، معتمدات على ما لديهن من مهارات وإبداع، ومن بين هذه النساء، “أم محمد”، التي حولت ألم التهجير وفقدان الماضي إلى مصدر إلهام وأمل، فصنعت بيديها مستقبلًا مليئًا بالابتكار والتحدي، متغلبة على كل صعوبات الحرب والنزوح.
قصتها هي واحدة من آلاف القصص التي تعكس قدرة النساء السوريات على التأقلم والابتكار في أصعب الظروف، محاولات خلق الجمال والحياة رغم كل ما يحمله الواقع من قسوة.