تشهد منطقة شمال شرقي سوريا تحولاً جذرياً في المشهد الاجتماعي والثقافي منذ دحر تنظيم داعش. وقد برز دور الشباب بشكل خاص في إعادة بناء المجتمع والعمل على الحد من مشاكله من خلال مبادرات مبتكرة في مجالات متنوعة.
خلال فترة سيطرة داعش، كانت المبادرات الشبابية والأنشطة الثقافية والفنية شبه معدومة، حيث فرض التنظيم قيوداً صارمة على الحريات الشخصية والإبداعية، ما أدى إلى انحسارٍ كبيرٍ في الأنشطة المجتمعية والثقافية. وكان الشباب يعيشون في ظل الخوف والقمع، مما حد بشكل كبير من قدرتهم على المساهمة في تنمية مجتمعاتهم.
وبعد هزيمة تنظيم داعش، شهدت منطقة شمال شرق سوريا نهضة ملحوظة في المبادرات الشبابية، فقد أظهر الشباب قدرة استثنائية على التكيف والإبداع في مواجهة التحديات الكبيرة التي خلفتها سنوات سيطرة داعش على المنطقة والصراع الدائر بسببه.
وقال عمر الصران، إداري في “منتدى أقلام رقيّة” داخل مدينة الرقة لمنصة SY24: “يشهد الواقع الثقافي في المنطقة حراكاً ثقافياً متسارعاً لا يكاد يهدأ. وهناك الكثير من المبادرات التي أطلقت من قبل مجموعة من الشباب الناشطين إما بشكل مستقل أو بالتعاون مع المؤسسة الثقافية الرسمية في شمال شرق سوريا”.
وأضاف الصران أن من هذه المبادرات: “بيت القصيد” التي كانت تُقام مساء كل يوم إثنين في مقهى النوفرة،وكانت المبادرة ملتقىً لكل المهتمين بالشأن الثقافي (قصة – شعر- خاطرة) في منتدى الركن الثقافي”.
كما تحدث الصران عن منتدى أقلام رقيّة، وهي مبادرة شبابية تهدف إلى تسليط الضوء على المواهب الشابة وتدريبها، ويُقام المنتدى بشكل دوري كل أسبوعين من يوم السبت. بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى منتدى أطياف، الذي يُنظم على مستوى شمال شرق سوريا، ويشمل دورات تدريبية في المسرح والشعر والموسيقى برعاية منظمة رؤيا. كما شاركت منظمة الزاجل في تنظيم دورات تدريبية في الشعر والموسيقى. تميزت المنطقة أيضاً بالعديد من الأمسيات الأدبية والملتقيات، مثل “الأسبوع الثقافي الأول في الرقة” و”ملتقى الطبقة الأدبي”، إلى جانب معارض مثل “معرض فرات ولون” ومجموعة من المبادرات والنشاطات الأخرى.
وتابع: “بالتأكيد مثل هذه النشاطات كانت ممنوعة ومحظورة تماماً في ظل حكم داعش، في حين أن أغلب هذه النشاطات تهدف إلى نشر الثقافة ورفع سوية الوعي لدى المجتمع والخروج من آثار الحرب التي شهدتها المنطقة، بالإضافة إلى توجيه المجتمع والشباب خاصة وتوعيتهم ضد الآفات المجتمعية”.
وأشار إلى أنه حسب أيديولوجية داعش لا يمكن حتى التفكير بهكذا نشاطات، أي أن النشاط الوحيد الذي كان متاحاً هو (الخيمة الدعوية التي تقيمها داعش) والتي تهدف لنشر فكرهم فقط ضمن مسابقات وجوائز عبر فرق جوالة.
ولفت إلى أنه بعد دحر داعش عادت الحركة الثقافية إلى نشاطها، وبات هناك الكثير من النشاطات، ولكن من أهم المسابقات التي أقيمت (مسابقة شاعر الفرات ومسابقة عبد الحميد الكاتب ومسابقة محمد الفراتي)، ومن الفرق الموسيقية التي تم تأسيسها فرقة أثر للموسيقى والغناء وهم مجموعة من الشباب المتطوعين، وفق قوله.
ورأى عدد من أبناء المنطقة الشرقية أن هذه المبادرات تبقى شاهداً على قدرة الشباب السوري على التغلب على الصعاب والمساهمة في إعادة بناء مجتمعهم، خاصة وأنها شهدت تحولاً جذرياً من حالة القمع والانعدام في ظل حكم داعش، إلى حالة من النشاط والإبداع بعد دحر التنظيم، وفق وصفهم.
وتتنوع المبادرات الشبابية سواء في مجال التعليم أو في مجال العمل الاجتماعي وغيرها من المجالات الأخرى.
ففي مجال التعليم، تقوم بين فترة وأخرى مجموعة من الشباب المتطوعين أو المدرسين المتطوعين بتقديم الدروس لتقوية الطلاب الذين انقطعوا عن الدراسة خلال فترة حكم داعش، بالإضافة إلى برامج محو الأمية للكبار، وقد نجحت هذه المبادرات في مساعدة المئات من الأطفال والشباب على العودة إلى مقاعد الدراسة وسد الفجوة التعليمية التي خلفتها سنوات الحرب في فترة داعش.
كما ظهرت مبادرات في مجال ريادة الأعمال، والتي تهدف إلى تمكين الشباب اقتصادياً من خلال تزويدهم بمهارات تقنية مطلوبة في سوق العمل.
وفي مجال العمل الاجتماعي، أُطلقت العديد من المبادرات الشبابية لمساعدة الأسر المتضررة من الحرب، والتي تقوم على جمع التبرعات وتوزيع المساعدات على المحتاجين، بالإضافة إلى تقديم الدعم النفسي للأطفال المتضررين من الصراع.
وفي هذا الجانب، قال الناشط الإنساني عمر الخطاب ابن منطقة دير الزور لمنصة SY24: “قبل دحر داعش، كانت المبادرات الشبابية في ظل حكم داعش تواجه تحديات كبيرة، حيث كانت تتعرض للقمع والاضطهاد، فالتنظيم كان يسعى إلى فرض أجندته وقمع أي شكل من أشكال التعبير الحر والإبداع، وعلى الرغم من ذلك، تمكن بعض الشباب من إطلاق مبادرات سرية تركزت بشكل أساسي على تقديم الخدمات الأساسية للمجتمع، مثل التعليم والرعاية الصحية، وكانت هذه المبادرات تعمل في الخفاء وتعتمد على التضامن والتكاتف بين أفراد المجتمع”.
وأضاف أنه “بعد هزيمة داعش شهدت المبادرات الشبابية في شرق سوريا تحولاً نوعياً، حيث أصبحت أكثر تنوعاًوتأثيراً، فقد انتقلت من العمل السري إلى العمل العلني، وأصبحت تستهدف مجموعة واسعة من القضايا، مثل التعليم والثقافة والفن والرياضة، كما بدأت تظهر مبادرات تركز على بناء السلام والمصالحة المجتمعية، وذلك في محاولة لرأب الصدع الذي خلفه الصراع”.
وأجمع أبناء المنطقة الشرقية على أن الشباب السوري يتميز بقدر كبير من الإبداع والابتكار، مما مكنهم من تطوير حلول مبتكرة للمشاكل التي تواجه مجتمعهم، إذ يعتمد نجاح أي مبادرة على التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع.
وضرب الخطاب أمثلة عدة على المبادرات الشبابية ومنها ما هو في المجال التعليمي، موضحًا أنه تم تأسيس مدارس مجتمعية لتوفير فرص تعليمية متكافئة للأطفال والشباب الذين حرموا من التعليم خلال سنوات الحرب.إضافة إلى إطلاق برامج مكثفة لمحو الأمية بين الكبار، خاصة النساء، لتمكينهم من المشاركة في الحياة المجتمعية، كما تم تنظيم ورش عمل تدريبية للمعلمين لتطوير مهاراتهم التربوية وتزويدهم بالمعارف الحديثة.
ولم يقتصر الأمر على المبادرات الشبابية في مجال التعليم، بحسب الخطاب، بل امتد إلى المجال الصحي، حيث تم إطلاق عيادات متنقلة لتقديم الخدمات الصحية الأساسية للسكان في المناطق النائية، وتنفيذ برامج توعية صحية حول الأمراض المنتشرة وكيفية الوقاية منها، إلى جانب تقديم الدعم المادي واللوجستي للمستشفيات والمراكز الصحية لتطوير خدماتها.
ومن المبادرات كذلك، تنظيم فعاليات رياضية للشباب، مثل بطولات كرة القدم والكرة الطائرة، لتشجيع روح الفريق والعمل الجماعي، ودعم المبادرات النسائية التي تهدف إلى تمكين المرأة وتوعيتها بحقوقها، وتنظيم حملات نظافة وزرع الأشجار للحفاظ على البيئة.
وفي المجال التنموي، تم دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتوفير فرص عمل للشباب، وتم تشجيع الزراعة وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ورغم تنوع المبادرات الشبابية وأهميتها بعد دحر داعش من المنطقة شرق سوريا، إلا أنها لا تزال تواجه تحديات عدة على رأسها الأوضاع الاقتصادية الصعبة، حيث تعاني سوريا من أزمة اقتصادية حادة، مما يخلق تحديات تواجه الشباب للحصول على التمويل اللازم لمشاريعهم.
كما أدى الصراع في سوريا إلى نزوح وتشريد الملايين، مما أثر سلباً على المجتمعات المحلية وقدرتها على دعم المبادرات الشبابية، يضاف إلى ذلك غياب الاستقرار السياسي الذي يؤثر على قدرة المبادرات الشبابية على العمل بشكل مستدام.
ورغم كل ما تم ذكره من تحديات، تشكل المبادرات الشبابية في شرق سوريا شهادة حية على إصرار أبناء المنطقة على الحياة والإبداع، حتى في ظل الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة، وقد شهد هذا الجزء من سوريا تحولات عميقة في طبيعة هذه المبادرات وأثرها على المجتمع، قبل وبعد القضاء على داعش وطرده من المنطقة، بحسب آراء عدد من سكانها.