تُعد الأكلات الشعبية في إدلب مرآة تعكس عراقة التراث المحلي وروح الهوية الثقافية، لطالما كانت هذه الأطباق جزءًا أصيلًا من حياة السكان، تحمل في طياتها نكهة الماضي وتقاليد الأجداد.
ولكن في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها المنطقة، تعرضت مائدة الطعام الإدلّبية لتغييرات كبيرة. حيث اضطر السكان إلى إيجاد حلول بديلة للتغلب على ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانعدام بعضها، مع الحفاظ على أصالة هذه الأطباق قدر الإمكان.
المجدرة، الكبة، والفطائر كانت قديماً رمزاً للكرم والألفة في الأفراح والمناسبات، إلا أن إعدادها اليوم بات يحمل شيئاً من التحدي حسب ما أكدته “أم محمد”، وهي سيدة سبعينية من إدلب، تروي لنا كيف كانت تقضي ساعات في إعداد الكبة بحشوة غنية باللحم، لكنها اليوم تصنعها باستخدام البصل والبرغل فقط.
ورغم بساطة المكونات، تؤكد أنها تسعى دائمًا للحفاظ على النكهة الأصلية التي تعلمتها من والدتها، مشيرة إلى أن الحفاظ على التراث بالنسبة لها ليس مجرد مهارة طهي، بل مسؤولية تجاه الأجيال الجديدة.
المائدة الإدلّبية في مواجهة الأزمات الاقتصادية
ارتفاع أسعار اللحوم والسمن الحيواني أجبر العديد من الأسر على استبدال هذه المكونات ببدائل بسيطة. يوضح “أبو خالد”، صاحب متجر للمواد الغذائية في إدلب، كيف أصبحت الزيوت النباتية والعدس الخيار الأول لمعظم العائلات نتيجة ارتفاع تكاليف اللحوم. ويضيف: “حتى المواد الغذائية الأساسية يلجأ الناس اليوم إلى الأنواع الأرخص لتلبية احتياجاتهم”.
الإبداع في المطبخ.. جود بالموجود
في ظل هذه التحديات، تحتال النساء والأمهات على واقعهن المعيشي المتردي تبرز قدرتهن على التكيف مع الغلاء وارتفاع الأسعار. “أم علاء” وهي أم لثلاثة أطفال، تخلط الزيت الأبيض مع زيت الزيتون لإعداد طبق من المجدرة. تقول : “رغم التغييرات التي فرضتها الظروف علينا، أحرص دائمًا على أن تحمل أطباقي طعم التراث الذي تربينا عليه، التكيف ليس ترفًا بل ضرورة، وأنا فخورة بأنني أساهم في إبقاء هذه الأكلات جزءًا من حياتنا اليومية”.
دور المبادرات في تعزيز التراث
إلى جانب الجهود الفردية، تلعب المنظمات المحلية الداعمة في إدلب دورًا هامًا في الحفاظ على التراث الغذائي. تسعى هذه المنظمات من خلال برامجها إلى تمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا. حيث تنظم دورات تدريبية لتعليم النساء إعداد الأكلات الشعبية والتراثية بطرق مبتكرة تتناسب مع الظروف الحالية.
تقول “حنان”، إحدى المدربات في هذه البرامج: “تعليم النساء الأكلات التراثية ليس مجرد تدريب على الطهي، بل هو وسيلة للحفاظ على هوية الشعب وتراثه”.
تضيف حنان أن هذه المبادرات لا تساعد النساء فقط على تعزيز مهاراتهن. بل تمكّنهن أيضًا من إيجاد فرص عمل ومصادر دخل من خلال إعداد وبيع الأكلات الشعبية. بهذه الجهود تسهم المبادرات المجتمعية في إبقاء المطبخ الإدلبي رمزًا للهوية الثقافية رغم كل التحديات.
في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية. يبقى الطعام الشعبي في إدلب رمزًا للصمود والإبداع. بين الابتكار الفردي والمبادرات المجتمعية. تستمر المائدة الإدلّبية في عكس هوية السكان وتراثهم العريق مائدة الطعام ليست مجرد مساحة للطهي. بل حكاية عن إرادة الحياة والتشبث بالجذور الثقافية في وجه كل المحن.