اضطر الدكتور سامي نجيب كلاوي، رئيس الطبابة الشرعية في مدينة حلب حتى نهاية عام 2013، إلى مغادرة سوريا والانشقاق عن نظام الأسد، بعدما عاين آلاف الجثث لمعتقلين صُفّوا ميدانيًا على يد قوات أمن النظام في المدينة.
لجأ كلاوي إلى ألمانيا عام 2014، لكنه لم يستطع نسيان مشاهد الموت التي كان شاهدًا عليها، خصوصًا مقتل صديقه الدكتور صخر حلاق، الذي اعتُقل في يونيو/حزيران 2011 أثناء توجهه من عيادته في سيف الدولة إلى منزله.
اعتقلته المخابرات الجوية في حلب، وبعد أيام، سُلّمت جثته إلى ذويه وهي تحمل آثار تعذيب شديد. يصف الدكتور كلاوي الجثة قائلًا: “كانت تجسد كل ما درسته في علم التشريح الطبي.”
العودة إلى الأدلة بعد انهيار سيطرة النظام
بعد سنوات من المنفى القسري، ظل الدكتور كلاوي يراقب تطورات المشهد السوري عن كثب. ومع انهيار سيطرة النظام على حلب في ديسمبر/كانون الأول الماضي، قرر العودة إلى أرشيف الطب الشرعي في المدينة لمطابقة شهاداته السابقة مع الوثائق الرسمية، وهو ما قاده إلى تحقيق قناة الجزيرة، الذي كشف عن آلاف الصور والمستندات التي تؤكد عمليات التصفية الميدانية في المدينة.
شهادات مرعبة عن عمليات التصفية
بحسب ما أدلى به لمنصة “سوريا 24”، وثَّق الدكتور كلاوي، خلال فترة عمله في الطبابة الشرعية، أكثر من 6200 جثة لمعتقلين، جميعهم صُفّوا على يد قوات الأمن. كانت معظم الجثث مكبلة اليدين ومعصوبة العينين، وقد تم إعدامها رميًا بالرصاص من الخلف، فيما تُرك بعضها في الأماكن العامة والحدائق.
ويشير كلاوي إلى أن “معظم الجثث كانت تصل إلى مستشفى الجامعة في حلب، حيث كانت قوات الأمن تكدّسها في الممرات وباحات المستشفى، أمام باب الإسعاف والباب الرئيسي”، مضيفًا أن “رائحة الموت كانت تطارد كل من يمر هناك.”
تحقيق الجزيرة يكشف المستور
كشف تحقيق قناة الجزيرة عن أكثر من 6500 صورة توثق هذه الجرائم، مشيرًا إلى أن فرع الأمن الجنائي في حلب كان الجهة المعنية بتوثيق الجثث وتصويرها، مع تقييدها كـ”مجهولة الهوية”، ووضع أرقام على الجثث بدلًا من أسمائها. كما أظهر التحقيق أن الجثث نُقلت لاحقًا إلى المستشفيات العسكرية، ثم دُفنت في مقابر جماعية دون إبلاغ الأهالي بمصير أحبائهم.
شهادات ناجين ومشاهد مروعة
أورد التقرير شهادات ناجين أُفرج عنهم من سجون النظام، أكدوا أن عناصر الأفرع الأمنية، وبخاصة فرع المخابرات الجوية، كانت تقوم بتصفية المعتقلين عندما يزداد عددهم عن سعة الزنزانة. كما تحدث شهود عيان عن قيام قوات الأمن بحرق جثث المعتقلين في أرض مهجورة خلف مبنى الصم والبكم في حي السبيل، بعد نقلها في سيارات تشبه سيارات القمامة.
مأساة العائلات الباحثة عن الحقيقة
لا تزال آلاف العائلات السورية تعيش في انتظار مؤلم لمعرفة مصير أبنائها. فقدت أم وحيد حميد بصرها من شدة البكاء على ولديها، كمال وجهاد، اللذين اعتقلهما النظام في أواخر عام 2013، ولم تحصل على أي خبر عنهما منذ ذلك الحين. تقول شقيقتهما: “للأسف، لقد اختفيا في سراديب أقبية إجرام الأسد.”
أرقام مفزعة عن المعتقلين والمختفين قسريًا
ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن “ما لا يقل عن 112,414 شخصًا لا يزالون مختفين قسرًا على يد نظام الأسد البائد”، رغم الإفراج عن آلاف المعتقلين في الأسابيع الأخيرة من قبل مقاتلي المعارضة بعد سقوط النظام. وقدرت الشبكة عدد المفرج عنهم بعد فتح السجون بنحو 24,200 شخص، مشيرةً إلى أن العدد الإجمالي للمعتقلين والمختفين قسرًا بلغ أكثر من 136,000 شخص.
دعوات لمحاسبة المسؤولين
واليوم، بعد انهيار النظام، تتكشف هذه الحقائق أمام الرأي العام، لتعيد تسليط الضوء على معاناة آلاف العائلات السورية التي لا تزال تبحث عن إجابات حول مصير ذويها. هذا التقرير يُضاف إلى الأدلة المتزايدة حول الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت في السجون السورية، مما يعزز مطالبات الأهالي والمنظمات الحقوقية بضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، التي لن تُمحى من الذاكرة السورية.