درعا، تلك الأرض التي خطّت أول سطور الثورة في سوريا، تلملم اليوم جراحها، وتستعيد صدى أصوات أبنائها الذين خرجوا ذات يوم يطالبون بالحرية. هي الأرض التي حملت على أكتافها أمل شعب، ودفعت ثمنه غاليًا بدماء شبابها وأطفالها الذين حلموا بوطن لا يُختزل في شخص، بل يتسع للجميع.
منذ صرختها الأولى في مارس 2011، حين خطّ أطفالها على جدران مدارسهم “إجاك الدور يا دكتور”، كانت درعا أكثر من مجرد محافظة، كانت الشرارة التي أيقظت حلماً عانق السماء. صرخات أمهات المعتقلين، ودموع الآباء الذين فقدوا أبناءهم، رسمت طريقًا طويلًا من النضال، تخللته تضحيات لا تحصى، وصمود أمام أعتى آلات القمع والبطش.
في لحظات التفاوض الأخيرة، وقف أدهم الكراد، أحد رموز الثورة، شامخًا في وجه المستبدين، ليعلنها مدوية: “تسقط موسكو ولا تسقط درعا”. لم يكن مجرد تصريح، بل كان وعدًا بأن الحرية التي نادت بها درعا لن تموت، حتى وإن خذلها العالم.
واليوم، بعدما رحل الطغاة وسقطت الأقنعة، ترتفع رايات الثورة من جديد في ساحات درعا، مستعيدة روح الفنانة الراحلة ميس سكاف، التي آمنت بسوريا الحرة، بسوريا التي لا يملكها أحد، بسوريا التي قالت عنها يوماً: “إنها سوريا العظيمة، وليست سوريا الأسد”.
درعا اليوم ليست مجرد مدينة استعادت بعضًا من حريتها، بل هي شهادة حيّة على أن الظلم مهما طال، فإن شمس العدالة ستشرق من جديد. في ذكراها، تنبض الشوارع بذكرى الشهداء، وتصدح الحناجر بالهتاف الذي لم يخفت يومًا: “سوريا لنا وما هي لبيت الأسد”.
الجامع العمري.. صوت الثورة ومهد الصمود
في قلب درعا البلد، يقف الجامع العمري الكبير شاهدًا على التاريخ، لا بقبابه ومآذنه فقط، بل بالصرخات التي انطلقت من داخله، معلنة ولادة الثورة السورية. لم يكن مجرد مسجد، بل كان قلب الانتفاضة، ونقطة انطلاقها الأولى.
في 18 مارس 2011، حين خرجت أول مظاهرة في درعا ضد النظام، كان الجامع العمري هو المكان الذي احتمى فيه المتظاهرون من رصاص الأجهزة الأمنية، ومنه خرجت هتافات الحرية التي سرعان ما امتدت إلى باقي المحافظات السورية. في الليالي التالية، تحول المسجد إلى ملجأ للجرحى، حيث كان الأطباء والمسعفون يعالجون المصابين بعيدًا عن أعين الأمن، الذي كان يعتقل المصابين من المستشفيات.
لم يرق هذا المشهد للنظام، فقرر أن يوجه ضربته إلى قلب الثورة، فاقتحمت قوات الأمن والمخابرات المسجد، قتلت من بداخله، ونهبت مصاحفه، وكسرت منبره، في محاولة لإخماد الحراك. لكن الجامع العمري لم يكن مجرد بناء، بل كان رمزًا لنضال شعب، فأصبح اسمه مرادفًا للثورة، وصار النداء الذي خرج من مآذنه “حرية للأبد” نشيدًا يتردد في جميع أنحاء سوريا.
لم يكن استهداف النظام للجامع مجرد اعتداء على مبنى ديني، بل كان هجومًا على الثورة ذاتها، على رمزيتها، وعلى روحها التي تأبى الانكسار. وعلى الرغم من كل ما حدث، بقي الجامع العمري عنوانًا للصمود، ومع كل انتفاضة جديدة في درعا، كان صوته يعود، وكأن جدرانه تأبى أن تنسى الهتافات الأولى، التي أعلنت أن سوريا لن تكون بعد اليوم مزرعة لعائلة الأسد.
البداية: شرارة الثورة التي غيرت وجه سوريا
في 9 مارس 2011، اعتقلت الأجهزة الأمنية مجموعة من أطفال درعا بعد أن كتبوا شعارات مناهضة للنظام على جدران مدرستهم، مستوحاة من ثورات الربيع العربي. كان رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، عاطف نجيب، هو المسؤول المباشر عن احتجازهم وتعذيبهم، وحين ذهب أهالي الأطفال لمطالبته بالإفراج عنهم، جاء الرد صادمًا: “انسوا أطفالكم، وخلفوا غيرهم، وإن لم تستطيعوا، فنحن جاهزون لمساعدتكم”.
كان هذا الرد كافيًا ليشعل نار الغضب في قلوب أهالي درعا، ويحوّل الاحتجاجات السلمية إلى انتفاضة شعبية. في 18 مارس 2011، خرجت أول مظاهرة كبيرة في المدينة، رغم القمع العنيف الذي واجهها. سرعان ما انتشرت الاحتجاجات في باقي المناطق، وكان رد النظام دمويًا، حيث أطلق الرصاص على المتظاهرين، ليسقط أول شهداء الثورة.
معارك التحرير.. درعا تكسر القيود
على مدار سنوات، لم تكن درعا مجرد مدينة محتجة، بل كانت ساحة مواجهة مستمرة. من تحرير بصرى الشام والشيخ مسكين، إلى معركة حي المنشية في 2017، التي استمرت لأشهر، وشكلت نقطة تحول في الصراع بين النظام والثوار. كانت معركة المنشية رسالة واضحة بأن درعا لن تركع، مهما اشتد الحصار وتكالب الأعداء.
لكن مع ازدياد الضغوط الدولية، وتوقيع اتفاق “خفض التصعيد”، وجدت درعا نفسها وحيدة في مواجهة آلة الحرب الروسية والإيرانية. في يوليو 2018، شن النظام هجومًا واسعًا، بدعم من موسكو وطهران، وفرض اتفاق “التسوية”، الذي كان أشبه باستسلام قسري، لكنه لم يكن نهاية الحكاية.
درعا تعود.. النصر رغم كل الخيبات
لم يكن سقوط درعا في 2018 نهاية المطاف، بل كان بداية فصل جديد من المقاومة. ظلّ أبناء المدينة يرفضون حكم النظام، واستمرت الاغتيالات والمواجهات بين الفصائل والميليشيات المدعومة من إيران، حتى عادت درعا مجددًا إلى واجهة الأحداث، وبدأت تستعيد زمام المبادرة.
واليوم، بعدما أينعت الثورة وسقط وهرب الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وبعدما رحلت روسيا عن المشهد، وانهارت التسويات التي فُرضت بالقوة، تقف درعا مرة أخرى، معلنة “سوريا لنا وما هي لبيت الأسد”، “عاشت سوريا وهرب الأسد”.
في ساحات المدينة، يعود الجامع العمري ليكون شاهدًا من جديد، وتعود رايات الحرية لترفرف في سماء درعا، مؤكدة أن “تسقط موسكو ولا تسقط درعا”، وأن صوت الشعب أقوى من أي دكتاتور، وأن الثورة، مهما حاولوا إسكاتها، ستبقى حية، ما دام في سوريا قلب ينبض بالحلم.