أُسدِل الستار على حكم بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بعد أكثر من 13 عامًا من القتل والتدمير، ليغادر سوريا بلدًا مدمرًا ومنهكًا اقتصاديًا. فبينما كانت أنظار العالم مركّزة على الأبعاد السياسية والأمنية للصراع، بقي الجانب الاقتصادي مُهمَلًا، رغم كونه حجر الأساس في إعادة بناء الدولة المنهارة.
حكم بشار الأسد والانهيار الاقتصادي
قبل عام 2011، كانت سوريا تشهد نموًا اقتصاديًا متسارعًا، مدفوعًا بتحولات سياسية كبرى. فمع نهاية الحرب الباردة وصعود بشار الأسد إلى الحكم، بدأت البلاد مسارًا من “الانفتاح الاقتصادي”، متجهة نحو تحرير الأسواق وتنويع الاقتصاد. وقد سجلت البلاد نموًا تراوح بين 6% و12% في تسعينيات القرن الماضي، مدعومًا بمشاريع بنية تحتية واستثمار في السياحة والنفط.
في عام 2010، كانت سوريا تنتج أكثر من 61 ألف متر مكعب من النفط يوميًا، و7.8 ملايين متر مكعب من الغاز سنويًا، وشكّلت الطاقة حينها نحو 22% من إيرادات الدولة.
لكن هذا الازدهار لم يُترجَمْ إلى فرص عمل كافية، إذ بلغت نسبة البطالة بين الشباب 77% من مجمل العاطلين، ما شكّل أحد الأسباب الرئيسية لانفجار الثورة السورية.
دمار ومئات المليارات لإعادة الإعمار
أدّت حرب نظام الأسد على شعبه إلى نزوح نصف سكان سوريا، ما خلّف نحو 12 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وفق برنامج الأغذية العالمي. وتراجعت موارد المياه بنسبة 40%، فيما يحصل المواطنون على كهرباء لا تتجاوز 2-3 ساعات يوميًا. وقد دمّرت الحرب معظم البنية التحتية، خصوصًا في قطاعات الطاقة والمواصلات، في حين قدّرت تقارير أممية كلفة إعادة الإعمار بما بين 250 و400 مليار دولار.
رؤى متباينة لحل اقتصادي معقد
أكّد الدكتور معروف الخلف، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق، أن الطريق نحو التعافي الاقتصادي ما يزال طويلًا ومعقدًا، مشددًا في حديثه لـ”سوريا 24” على أن الحل الاقتصادي لا يمكن فصله عن الحل السياسي. وأوضح أن مرحلة التعافي تمر بثلاث مراحل: أولها مرحلة الإنعاش (تستمر نحو عام في حال توفرت الظروف المناسبة)، تليها مرحلة استثمار الموارد الطبيعية والبشرية، ثم مرحلة التنمية، التي تتطلب معالجة آثار العقوبات الاقتصادية عبر جهود سياسية كبرى.
وأضاف أن القطاعات الزراعية والمدن الصناعية مثل مدينة الشيخ نجار يجب أن تكون في صلب الأولويات، إلى جانب دعم التجارة مع دول الجوار، وخاصة تركيا. لكنه حذّر من أن هذا الدعم لن يُحدث فرقًا ملموسًا من دون وجود مشاريع بنية تحتية ضخمة.
وأشار إلى أن الحكومة الجديدة أمامها ملفات ضخمة في الصحة والتعليم والاقتصاد، وأن مواجهة البطالة والفقر تتطلب جهة تنفيذية مركزية (وحدة طوارئ تنفيذية) قادرة على اتخاذ قرارات جذرية.
رؤية الوزير: شراكة جديدة واقتصاد جديد
في سياق متصل، دعا وزير الاقتصاد والصناعة الدكتور محمد نضال الشعار إلى صياغة رؤية اقتصادية تتجاوز الأساليب القديمة، مؤكدًا أن “إعادة إنتاج سوريا تعني إعادة إنتاج شيء قديم ومتعب”، بينما “التفكير بسوريا كدولة وليدة يمنح فرصة تاريخية لإعادة بنائها وفقًا لما يراه الشعب مناسبًا”.
وفي مقابلة مع صحيفة الشرق بلومبيرغ، شدّد الشعار على أن استقطاب الطاقات الشابة وتحسين معيشة المواطنين من أولويات الحكومة، إضافة إلى بناء شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص.
كما كشف عن أن نحو 400 مصنع في حلب قد عاد إلى العمل، وهناك توجه لاستيراد المعدات الصناعية بطرق شرعية لتعزيز هذا التوجه.
العقوبات: معضلة دولية تتطلب مراحل
حول ملف العقوبات، أكد الوزير الشعار أن رفعها أمر أساسي لإنعاش الاقتصاد، مشيرًا إلى أن مجرد السماح باستخدام نظام SWIFT للتحويلات المالية الدولية سيُحدث فارقًا كبيرًا من دون أن يكلّف الولايات المتحدة كثيرًا.
في السياق نفسه، رأى الدكتور الخلف أن رفع العقوبات بشكل شامل أمر غير واقعي، مشيرًا إلى أنها سترفع بشكل جزئي ووفق تراخيص تستهدف قطاعات الصحة والكهرباء والمياه، ذات العلاقة المباشرة بحياة المواطنين.
وقال: “الاستثمار يتطلب أفقًا طويل المدى، ورفع العقوبات الكاملة مشروط بإجراءات قانونية معقدة، خاصة في ظل ارتباطها بشبكات مالية دولية مثل SWIFT”.
رأي أكاديمي: الإنتاج أولوية والحمائية مطلوبة
من جانبه، قال الدكتور عبد المنعم الحلبي، الأكاديمي والخبير الاقتصادي، في تصريح لـ”سوريا 24”، إن الأولوية في المرحلة الحالية يجب أن تذهب إلى مواجهة التضخم وتثبيت سعر صرف الليرة. وأكد أهمية حماية المنتج المحلي من خلال سياسة ضريبية مرنة تراعي تكاليف الإمداد والطاقة، إلى جانب اتباع سياسة تجارية حمائية مدروسة.
وأوضح أن تحريك عجلة الإنتاج يجب أن يكون الهدف المركزي، لا سيما في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وخاصة الصناعات الغذائية والنسيجية.
كما شدّد على أن “استعادة الموارد النفطية وزيادة إنتاج المشتقات، إلى جانب تطوير الزراعات الاستراتيجية مثل الحبوب والقطن والزيتون، ستكون الركائز الأساسية للاقتصاد السوري في المرحلة القادمة”.
اختبار الكبتاغون والمواقف الإقليمية
لا تزال تجارة الكبتاغون، التي ازدهرت خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد، تمثل تحديًا حقيقيًا أمام الحكومة الجديدة.
وقد ربطت السعودية تقديم مساعداتها بوقف إنتاج وتهريب هذه المادة، التي تُشكّل تهديدًا مباشرًا لأمنها الداخلي.
في المقابل، أبدت تركيا استعدادها لإعادة تأهيل البنية التحتية، خصوصًا الطرق والسكك الحديدية، بينما تعهّدت قطر بتمويل زيادات كبيرة في رواتب موظفي القطاع العام.
نحو اقتصاد منتج… ولكن
يرى الباحث الفرنسي دافيد ريغوليه-روز، في تصريحات نقلتها Le Monde، أن “هدف المرحلة المقبلة هو الانتقال من اقتصاد البقاء إلى اقتصاد متجدد”، لكنه حذّر من أن “الوصول إلى اقتصاد منتج فعلي لا يزال بعيد المنال”، خاصة في ظل استمرار العقوبات وبطء العملية السياسية.