بين الركام والغبار، يتبادل عدد من التجار القُدامى الأحوال الاقتصادية، ويتباحثون في مستقبل السوق الواقع في قلب المدينة القديمة في حلب. يتبادلون الذكريات، ويرقبون ما آل إليه السوق من دمار وخراب، والذي كان يُعتبر إلى وقت قريب يضجّ بالحياة، ويُعدّ من أكثر الأسواق شهرة في العالم؛ فهو مركز للحِرف والصناعات اليدوية، لكن لم يبقَ في هذا المكان إلا الصمت والترقّب الممزوج بالأمل.
على أطراف المدينة القديمة، وعلى امتداد أكثر من 12 كيلومترًا، ينبسط سوق حلب القديم تحت أقواس حجرية تشهد على قرون من التاريخ. يعود بناؤه إلى العهد الهلنستي، وتوسّع خلال العصرين المملوكي والعثماني، ليصبح أحد أكبر الأسواق المسقوفة في الشرق، ويضم أكثر من 4000 محل تتوزع على 38 سوقًا تخصصيًّا، تخترقه ممرات متعرجة تقود إلى خانات ومساجد وحمّامات تاريخية، ويمتد من باب أنطاكية غربًا حتى قلعة حلب شرقًا، وكان لقرون قلب النشاط الاقتصادي للمدينة وملتقى طرق القوافل بين الشام وبغداد وإسطنبول.
لكن حرب النظام على الشعب السوري، وما استجد من أحداث على المدينة منذ عام 2012 وامتدت لسنوات، حوّلت هذا السوق إلى متاهة من الركام، بعد أن أُدرج على قائمة التراث العالمي المهدد لدى اليونسكو.
في مواجهة هذا الدمار، بادر بعض التجار إلى العودة رغم صعوبة الطريق.
عند مدخل سوق الحبال، يجلس جميل أبو محمود، أحد أقدم تجار السوق، على عتبة دكانه. يتأمل المشهد، ويسترجع الصور القديمة التي لا تغادر ذاكرته.
“كان الذهب يلمع هنا كما الشمس… والناس تزاحم على الشراء في كل زاوية”.
في عام 2017، قرر العودة، فرمم متجره على نفقته الخاصة، رغم أن المنطقة حينها كانت لا تزال مغلقة، ويقول: “90% من السوق احترق… لكن القلب لم يحترق بعد”.
ويتابع المشهد تاجر آخر، عبد الملك لطفي، الذي يقول لمنصة سوريا 24: “رممنا محلاتنا، لكن من يأتي؟ لا زبائن، لا حياة، فقط الذاكرة التي تسير معنا كل يوم”.
من جانبه، يروي حسام قضيماتي، صاحب محل في سوق الحبال، لمنصة سوريا 24: “رمّمت محلي بنفسي عام 2017، رغم أن الدخول إلى المنطقة حينها كان ممنوعًا بسبب سيطرة النظام. السوق احترق بنسبة 90%، ورغم ترميم نحو 60% من الأسواق، ما زلنا نسمع عن جمعيات تنوي العودة للعمل في الترميم، ونتمنى أن يعودوا حقًّا”.
ويضيف أحمد مخللاتي، الذي يملك عدة محلات في السوق نفسه: “رممنا محلاتنا أيضًا على نفقتنا الخاصة منذ عام 2017. بعض الأضرار كانت بسبب الزلزال، والبعض الآخر بسبب الحرب والحرائق، والقلعة كانت تحت سيطرة النظام. نحن نأمل أن تعود الأسواق كما كانت”.
في مكتبها وسط المدينة القديمة، استقبلت المهندسة رشا مصري، مديرة شعبة المباني في مديرية آثار ومتاحف حلب، مراسل منصة سوريا 24، وقالت: إنّ “أهم بقعة في حلب هي الأسواق الأثرية”، وأن “دور حلب الاقتصادي معروف بسبب وقوعها على طريق القوافل، فوجود الأسواق هو شريان الحياة”.
وتضيف: “محور الأسواق يمتد من باب أنطاكية حتى سوق الزرب شرقًا. تاريخ الأسواق يرجع إلى العصر الهلنستي، وتتميّز بتخطيط شطرنجي، وسوق رئيسي تتفرع عنه الأسواق الأخرى. عدد الأسواق 38، وكل سوق له تخصصه وبضائعه”.
وتفصّل في مراحل الترميم: “بدأنا في سوق السقطية، ثم المجيدية، وخان الحرير، وساحة الفستق، وسوق الأحمدية، وسوق الحبال، ومن ثم سوق العبي والزرب”، وأنّ “الترميم يتم وفق اتفاقيات مع وزارة الثقافة ومحافظة حلب والمنظمة السورية للتنمية ومنظمة الآغا خان، باستخدام نفس مواد البناء، بالحجر الكلسي، وبأيدٍ محلية ماهرة، وتحت إشراف مباشر من مديرية الآثار”.
أما منير القسقاس، مدير آثار حلب، فيوضح حجم التحدي: “مساحة المدينة القديمة 400 هكتار، وتحتاج إلى دراسات وتمويل وكوادر مختصة وميزانيات حتى للدراسات وحدها”. ويقول لمنصة سوريا 24: إنه “ينسق مع مجلس مدينة حلب، والأوقاف، ومديرية المدينة القديمة”، وأنّ “هناك تواصلًا مع جهات دولية، منها منظمة الآغا خان، وجهات تركية، وألمانية، وإيطالية… هناك مشاريع قيد الدراسة بهدف إعادة إعمار كامل المدينة القديمة، من الأسواق إلى المساجد والخانات والبيمارستانات”.
ويشير إلى المرحلة الحالية: “بدأنا بسوق العطارين، بتمويل من الآغا خان، ضمن خطة تشمل ترميم 30 محلًا. فالأولوية للأسواق المهدّمة. أما الأسواق السليمة، فيمكن لأصحابها الترميم بإشراف مباشر بعد الحصول على رخصة رسمية”.
ويؤكد: “لا يوجد تواصل مباشر مع أصحاب المحلات حاليًا، بل التنسيق يتم عبر الجهات الرسمية. لا يوجد تمويل كافٍ لباقي الأسواق، لكن نعمل على إرسال مشاريع جديدة للجهات الداعمة”.
ورغم هذه الجهود، يبقى السوق في حالة انتظار. الزبائن نادرون، والحياة لا تعود بالحجارة وحدها، بل بالناس، بالضجيج، بروائح البهارات وذهب الصاغة.
جميل أبو محمود يهمس وكأنه يخاطب السوق نفسه: “نحن هنا، لكن من سيأتي؟ إن لم تعُد الحياة، ستبقى هذه الحجارة مقبرة من ذهب”.
إنها ليست قصة ترميم فقط، بل حكاية سوق يعود تاريخه إلى مئات السنين، ويحاول النهوض من تحت الرماد، ليؤكد أن ذاكرة الشعوب لا يمكن أن تموت.