خبير أجنبي:
دَوَّنْتُ، في أحد أجزاء كتابي “المستطرف”، حكايةَ خبير من جنسية دولة أوربية استقدمته إحدى المؤسسات التابعة للجيش والقوات المسلحة لإنجاز عمل مهم للمؤسسة، وكان هناك موعد بينه وبين مدير المؤسسة في موعد محدد.
وبالمصادفة كان ثمة “رئيس حرس” مدعوم من جهة أمنية عليا يحتل مكتب الدخول، وكان، يومها، رائقَ المزاج، فأحب أن يتسلى بهذا الضيف الأشقر ذي العينين الزرقاوين الذي جاء إلى المحرس متمتعاً بأقصى درجات النشاط.
بدأ الضيف حديثه بالإنكليزية، موضحاً أنه جاء على الموعد، فقال له رئيس الحرس بالإشارة، إنه لا يفهم هذه اللغة، فتحدث بالفرنسية، ثم بالروسية، وبقي يجرب لغة بعد لغة، إلى أن زجره رئيس الحرس وطرده، فولى هارباً، بينما انفلت رئيس الحرس بالضحك وقال للعسكري الجالس معه: شفت هادا الزلمة الأجنبي؟ بيعرف سبع لغات، وكل هاللغات ما أفادته بالدخول لجوه!
أبو القومية:
أثناء خدمتي العسكرية الاحتياطية، كان عندنا ضابط برتبة نقيب، اسمه “صاد راء”، لقبناه فيما بيننا “أبو القومية”، فالرجل يتبنى القومية العربية، وشعارات الوحدة العربية الشاملة، من المحيط إلى الخليج، ويحلف، على قولة أهل إدلب، برأسه وألف سيف، على أنه لا يقبل بأن تبقى دولة عربية تعدادُ سكانها مئة ألف نسمة خارج دولة الوحدة الكبرى التي يتوخاها، وكان يرغب، كذلك، في أن يعود الشبانُ العرب الذين جذبتهم الدول الاستعمارية إلى بلدانها- فيما عُرف بمصطلح “هجرة الأدمغة”- إلى دولة الوحدة العربية الكبرى، وهو واثق أن القيادة التاريخية للوحدة، سوف تؤمن لهم فرصَ عمل تتناسب مع إمكاناتهم الجبارة، وهم بدورهم سيخدمون دولة الوحدة العربية من جهة، ويسببون للدول الاستعمارية خسارة كبيرة، ضمن ما يسمى “هجرة الأدمغة المعاكسة”.
خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في صيف 1982، رفعت القواتُ المسلحة السورية جاهزيتَها إلى الحد الأقصى، وأصبح قريباً من المستحيل أن يحصل أحدُنا نحن المجندين على إجازة مهما كانت قصيرة.. ولكن، ذات يوم، دخل صديقنا عادل إلى المهجع وهو يغني لأم كلثوم “حَ قابلو بكرة”، وبدأ بتهيئة حقيبته الشخصية للسفر. سألناه: لوين رايح؟ قال: ع البلد. أخذت إجازة عشرة أيام.
دهشنا وقلنا له: مستحيل.
ضحك وقال: بوجود النقيب “أبو رينجو” ما في شي مستحيل.
سألته: مين أبو رينجو؟
ضحك وقال: أنت لا تعرف؟ أبو القومية مسمي ابنه الكبير رينجو.
قلت: كيف مسميه رينجو؟ هادا اسم أجنبي، بعدين شلون بيعطيك إجازة وفي عندنا استنفار مية بالمية؟
قال: أخي، أنا ما بعرف جاوبك على هدول الأسئلة، بس إذا بدك إجازة عشرة أيام، هلق بجبلك ياها من عند أبو رينجو.
قلت: طبعاً بدي، بس شلون؟
قال لي: بخمسمائة ليرة!
تأديب مهدي عامل:
حدثني الصديق (كاف كاف)، قال: في أحد الأيام من سنة 1989، ونحن في سجن صيدنايا، تقدم أحدُ السجانين من باب الجناح، وقال بلهجة آمرة: يلا لشوف، مهدي عامل يطلع لهون!، لم يرد أحد من السجناء، قال:
– شو ما سمعتوا؟ مهدي عامل يجي لهون بسرعة، طالبه مدير السجن.
وأضاف متشفياً: ليلتك سودا يا مهدي عامل!
لم يجرؤ أحدٌ منا على التوضيح بأن مهدي عامل هو الاسم المستعار الذي كان يستخدمه المفكرُ اللبناني “حسن حمدان” في مؤلفاته الفلسفية التي تُنَظِّرُ للماركسية، وأن هذا الفيلسوف لم يعد موجوداً على سطح الكرة الأرضية، فقد اغتيل بتاريخ 18 أيار مايو 1987، وتوجهت أصابعُ الاتهام في حينها إلى “منظمة الجهاد الإسلامي” التي أصبح اسمُها فيما بعد “حزب الله”.
قال السجان بصوت أعلى: طيب، وينه السجين مصعب..؟
كان معنا شاب جامعي اسمه مصعب، تقدم من آخر المهجع، وقال:
– نعم. أنا مصعب.
قال: بدك تقلي، ومن دون ما تلف وتدور وتوجع راسي، وين رفيقك مهدي عامل؟ ارتسمت ابتسامة قسرية على وجه مصعب، ولاذ بالصمت.
اتضحَ، فيما بعد، أن الالتباس الذي أدى إلى حدوث هذا المشهد هو أن السجين “مصعب” التقى بطبيب السجن أثناء مرضه، وعَرَفَ منه أنه من أصدقاء والده، لذلك رجاه أن يمر على أهله في المنزل ويوصل لهم رسالة، فأبدى الطبيب استعدادَه لنقل الرسالة، وهذا ما كان.
نحن المساجين لم نعرف إن كان الطبيب من المتعاملين مع إدارة السجن لذلك سلمهم رسالة مصعب، أو أن الحراس أوقفوا الطبيب أثناء مغادرته السجن، وفتشوه، فوجدوا معه الرسالة الموجزة.
نص الرسالة: والدتي العزيزة، والدي العزيز إخوتي الأحبة.. زميلُنا السجين فلان لديه زيارة قريبة، بيت أهله يقع في الحارة الفلانية، أرجو أنكم تبعتوا لي معه شوية مصاري، وصور شخصية لأفراد العائلة، وإذا أمكن تبعتوا لي رسالة تشرحوا لي فيها أوضاعكم، والتطورات اللي عم تصير معكم خلال غيابي، كمان ابعثوا معه شوية كتب لمهدي عامل.