في خطوة لافتة، أعلنت الولايات المتحدة بدء خفض وجودها العسكري في شمال شرقي سوريا، مع التخطيط لإغلاق ثلاث قواعد عسكرية صغيرة من أصل ثمانٍ منتشرة في المنطقة.
يأتي هذا القرار في سياق إعادة تقييم السياسات الأميركية تجاه سوريا، حيث يعكس تحوّلًا استراتيجيًّا محتملًا في التعامل مع الأوضاع الميدانية والسياسية المعقّدة في الشرق الأوسط.
تفاصيل القرار الأميركي
وفقًا لتقارير صحيفة “نيويورك تايمز” نقلًا عن مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى، فإن العملية ستتضمّن إغلاق ثلاث قواعد عسكرية رئيسية: “القرية الخضراء” الواقعة في حقل العمر النفطي، و”الفرات” في حقل كونيكو للغاز، بالإضافة إلى قاعدة “خراب جير” الصغيرة في محافظة الحسكة.
وسيؤدي ذلك إلى تقليص عدد القوات الأميركية من حوالي 2000 جندي إلى نحو 1400 فقط.
وأكد مسؤولون أميركيون أن القادة العسكريين سيُجرون تقييمًا جديدًا للوضع خلال 60 يومًا، مع توصيات بالإبقاء على ما لا يقل عن 500 جندي في المنطقة مستقبلًا.
ويأتي هذا الانسحاب الجزئي رغم استمرار التهديدات الأمنية التي تُشكّلها بقايا تنظيم (داعش)، الذي يسعى لاستغلال الاضطرابات السياسية في سوريا لتنفيذ هجمات جديدة وتحرير عناصره المعتقلين.
الدوافع الأميركية وراء القرار
وتشير القراءات الأولية للقرار الأميركي إلى أنه ليس نتيجة ضعف أو انسحاب كامل، بل هو إعادة تموضع استراتيجية تهدف إلى تقليل الأعباء العسكرية والمالية، مع المحافظة على نفوذ واشنطن في المنطقة.
وتُظهر التقديرات الاستخبارية الأميركية أن الحكومة السورية الجديدة قد تكون شريكًا محتملًا في محاربة داعش، بعدما أظهرت مؤشرات إيجابية تمثّلت في إحباط ثمانية مخططات للتنظيم في دمشق بناءً على معلومات استخبارية أميركية.
علاوةً على ذلك، يبدو أن واشنطن تسعى إلى تعزيز العلاقات مع تركيا، خاصة بعد تحسّن العلاقات بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان.
وهذه الخطوة قد تكون مدخلًا لتفاهمات تركية – أميركية حول مستقبل شمال شرقي سوريا، خصوصًا فيما يتعلق بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعتبرها أنقرة تهديدًا لأمنها القومي.
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي محمد ياسين نجار، في حديث لمنصة “سوريا 24”: “أن تخفيض القوات الأميركية وإغلاق ثلاث قواعد عسكرية يُشكّل رسالة واضحة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بضرورة الإسراع في عملية الاندماج الكامل في الدولة السورية”.
كما أشار إلى أن هذه الخطوة تعكس تجاوبًا مبدئيًّا من القيادة السورية الجديدة، لكنها تتطلّب تلبية كافة المطالب الثمانية التي قدّمتها واشنطن.
وأكد نجار أن تطوّر العلاقات الأميركية التركية يلعب دورًا محوريًّا في هذا السياق، خاصة بعد تصريحات ترامب الأخيرة.
التداعيات الإقليمية والدولية
ومن المحتمل أن يكون لتخفيض الوجود العسكري الأميركي في شمال شرقي سوريا انعكاسات كبيرة على مستقبل المنطقة، فمن جهة، يمنح هذا القرار الحكومة السورية الجديدة فرصة لتعزيز سيطرتها على المناطق الشمالية الشرقية الغنية بالنفط والغاز، مما قد يُسهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري المُتهالك.
ومن جهة أخرى، يعزّز هذا التحرك من فرص التفاهمات التركية – الأميركية، ما قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في سياسات تركيا تجاه الأكراد وقوات قسد.
وعلى صعيد آخر، يبقى السؤال حول مستقبل داعش قائمًا، إذ قد يفتح الانسحاب الأميركي المجال أمام التنظيم لاستعادة نشاطه في المنطقة، خاصة إذا لم تتمكن الحكومة السورية الجديدة أو حلفاؤها من سدّ الفراغ الأمني الناتج.
بدوره، قال العقيد أديب العليوي، المحلل العسكري والاستراتيجي، في حديث لمنصة “سوريا 24”: “إن تخفيض القوات الأميركية لا يعني بالضرورة انسحابًا كاملًا، بل هو إعادة تموضع ضمن تفاهمات سابقة بين واشنطن وأنقرة”.
وأشار إلى أن هذا القرار يُعطي فرصة للحكومة السورية الجديدة للتحرّك بحرية أكبر، بينما يُعدّ إنذارًا لقوات قسد بأن المشاريع الانفصالية لن يكون لها مستقبل في ظل هذا الانسحاب.
كما لفت إلى أن النفوذ الأميركي لن يختفي تمامًا، إذ من المتوقّع أن يتم تحويل بعض القوات إلى العراق لمواصلة إدارة الصراع بطريقة أقل تدخّلًا مباشرًا.
مستقبل السياسة الأميركية تجاه سوريا
تشير تقارير سابقة من “NBC News” و”Al-Monitor” إلى أن إدارة ترامب قد تُجري مراجعة شاملة للسياسة الأميركية تجاه سوريا، وقد يشمل ذلك تقليصًا إضافيًّا للقوات أو حتى انسحابًا كاملًا. ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى إدارة الصراع عن بُعد، عبر أدوات غير مباشرة مثل الدعم الاستخباري والتعاون مع الشركاء المحليين.
ووسط كل ذلك، فإن قرار الولايات المتحدة بتخفيض قواتها في شمال شرقي سوريا وإغلاق ثلاث قواعد عسكرية يعكس تحوّلًا استراتيجيًّا مهمًّا في التعامل مع الملف السوري.
وبينما يُمثّل هذا القرار فرصة للحكومة السورية الجديدة للتحرك بحرية أكبر، فإنه يحمل تحديات كبيرة تتعلق بمستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة، وفي الوقت نفسه، يؤكد القرار على أهمية التفاهمات الدولية والإقليمية في تشكيل مستقبل سوريا، خاصة في ظل التنافس الجيوسياسي المستمر بين القوى الكبرى.