ماهو دور الإعلام في العبث بالقضية السورية وتغيير وقائعها وأحداثها الحقيقية وتحييد الرأي العام الغربي بحيث يضمن ألا يضغط على حكوماته لفعل شيء ينقذ السوريين من محرقة الأسد، وكيف فعل ذلك؟ هذا ما سنقرأه على حلقات في هذا البحث للإعلامي الدكتور عبد القادر المنلا المتأسس على بحث نشر في مجلة هولندية، ويعد من أخطر المحاولات الإعلامية التي ساهمت في تشويه حقيقة الحدث السوري..
الحلقة الأولى..الغرب وشعارات حزب البعث..
ربما كانت كل جراحات السوريين وعذاباتهم وموتهم وتشردهم في كفة، وصدمتهم من موقف المجتمع الدولي -الغرب بشكل خاص-، مما يحدث في سورية، وبالتحديد موقفه من الأسد، في كفة أخرى توازي الأولى أو تزيد، إذ كيف يعقل أن يُترك شعب كامل تحت تصرف الأفران النازية التابعة للأسد، فيما يجلس العالم الحر، الديمقراطي، الداعم لحقوق الإنسان والمدافع عن حقوق الحيوان أيضاً، متفرجاً، أو عاجزاً، أو صامتاً، أو متواطئاً، بخلاف تصريح من هنا أو من هناك لا يحمي طفلاً ولا يطلق سراح معتقل ولا ينقذ مغتصبة، ويترك المجرم طليقاً ومسلحاً لسنوات، قبل أن تبدأ رحلة إعادة تدويره والقبول به مرة أخرى رئيساً “شرعياً” من قبل المجتمع الدولي، بل ومحاولة إجبار السوريين على قبوله كخيار وحيد؟!
دهشة السوريين وخيبة أملهم العميقة لا تتوقف فقط عند موقف الغرب وسكوته عن المجرم، بل تمتد للتساؤل عن حقيقة المجتمع المتحضر وأفكار حقوق الإنسان والحريات، وما إلى ذلك من طروحات بنى عليها الغرب أسس تفوقه واحترامه، مما جعل السوريين يعتقدون أن كل طروحات الغرب ماهي إلا أكذوبة وشعارات لا تختلف عن شعارات حزب البعث، وشعارات حلف الممانعة، وسواها من الشعارات التي تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية والقمعية والنظم المتخلفة للتغطية على حقائقها وخفاياها.
وإذ لا يخفى على السوريين ما فعلته الميديا العالمية في محاولاتها لتغيير الحقائق وقلبها، فإن التقنيات التي تم اعتمادها للوصول إلى ذلك الهدف هي ما يستحق الرصد والمتابعة والتوقف، فقد استطاعت الماكينة الإعلامية الغربية تحييد المواطن الأوروبي بالمطلق، من خلال تصدير رواية قادرة على تمرير انحيازها تحت عباءة الموضوعية.
ماذا يحدث بالضبط في سورية؟ من هو الأسد؟ من يقاتل ضده؟ ولماذا لا نتدخل؟
أربعة أسئلة تطرحها مقدمة أحد البحوث الهولندية المتعلقة بالشأن السوري، ولكن الهدف من البحث -كما سيتضح لاحقاً- ليس الإجابة عن السؤال الأخير، فثمة أهداف أبعد من اختلاق أسباب عدم التدخل..
يقع هذا البحث الشامل والمطول في (٢١ صفحة) ونشر في إحدى أشهر وأهم الصحف الهولندية NRC في العام 2016 وهو ليس البحث الوحيد ولكننا نستطيع تسميته بالبحث “الموحد”، أو النسخة المعتمدة الوحيدة التي يسمح بطبعها وتداولها والتي تسعى إلى احتكار الرواية عن الحدث السوري لتوحيد وعي مواطنيها وشعوبها، ويمكن اعتباره نموذجاً لتوجهات الإعلام الغربي فيما يتعلق بالحدث السوري، والتي تستغل الصحف والمجلات ذات الثقل والمصداقية لتضليل الرأى العام الأوروبي وضمان ابتعاده التام عن المشهد وعدم مطالبة حكوماته بفعل شيء إزاء مأساة العصر.
يحمل البحث عنواناً لافتاً: الأسئلة العشرة حول سورية التي لم تجرؤ على طرحها، ويردف سؤالاً في الفقرة الأولى يبدو بريئاً وطبيعياً، (لماذا لم نتدخل) بينما هو دليل الإدانة الفاقع على التواطئ والانحياز المباشر..
تكمن خطورة هذا البحث بمقارنته مع حدود معرفة المواطن الأوروبي والأمريكي أيضاً بما يحدث في سورية، حيث يمكن اعتباره ملخصاً ليس للوضع السياسي والعسكري، وإنما لما يجب على المواطن الغربي فهمه، هو تحديد وتأطير للرؤيا وقطع الطريق أمام أي سؤال قد يمتد لما بعد الواقع الافتراضي الذي تصوغه الميديا والبروباغنده المنحازة..
نستطيع أن نتعامل مع هذا البحث على أنه وثيقة تكشف بدقة مدى التحريف والتزوير الذي لجأ إليه الغرب لصياغة الحقائق التي تنسجم مع مصالحه بعيداً عن الحقائق الأصلية التي يعرفها الغرب بدقة -كما هو واضح تماماً من تفاصيل البحث ذاته-، ولكنه يدخل بعض التعديلات التي تضمن قلب الوقائع كلية واستبدال الحقائق الفعلية بحقائق مشتهاة وعلى مقاس اللعبة السياسية، دون أي اعتبار لأنهار الدم المهروق على مذبح المصالح..
القراءة المعمقة لهذا البحث تجيب بدقة عن كل التساؤلات التي تشغل السوريين ويحدد ماهية الموقف الحقيقي للغرب من القضية السورية، وخياراته المفضلة في النهاية، ولماذا تخلى عن السوريين، بل لماذا يساهم في إعادة إنتاج نظام الأسد..
يبدأ البحث منذ الفقرة الأولى من حيث يريد أن ينتهي فيقول بالحرف:
“في عام ٢٠١١، بدأت الحرب الأهلية في سورية”!!
كل التفاصيل التي أتت لاحقاً تعتمد على الحقائق التي حدثت بالفعل، حيث يروي البحث بدقة الحكاية منذ البدء حتى نهاية العام ٢٠١٦، يتحدث عن بنية النظام الديكتاتورية، عن الارتكابات، عن القمع، والاستئثار بالسلطة..الخ، ولكنه يعيد توجيه دفة القيادة باستمرار لتكون في خدمة الفكرة الرئيسية التي جعلها مفتاحاً للبحث وهي تثبيت فكرة الحرب الأهلية، وإغلاق كل الأبواب أمام فهم مختلف للحدث السوري، فيصادر وعي القارئ منذ البداية ويعتقل فكره في زنزانة ضيقة من الفهم ويدفعه لفهم القضية السورية من منظور النتيجة المسبقة التي اعتمدها في المقدمة.
وللتأكيد على ذلك يعبر البحث على الربيع العربي ويتوقف عند الحالة الليبية ليصفها أيضاً بالحرب الأهلية التي كسبها خصوم القذافي بدعم من الغرب، وهنا لا يمكننا العبور على تناقض عميق، فكل ما يريد البحث الوصول إليه هو أن الغرب لا يستطيع التدخل في الحروب الأهلية، وهو يعتمد على ذلك في تبرير سكوته عن الحالة السورية، ولكنه لا يتوانى عن الإقرار بأن إسقاط القذافي “الطرف الأقوى في الحرب الأهلية” كان من خلال تدخل الغرب ومساعدته!
بعد أن اختصر البحث ما يجري في سورية على أنه حرب أهلية عاد ليتحدث عن الثورة السلمية وعن المظاهرات التي حمل فيها المتظاهرون أغصان الزيتون، ولكن بشكل عابر وشكلي، ورغم ذكره للكثير من التفاصيل، إلا أنه لم يتوقف عند الفترة التي استغرقتها الثورة السلمية والتي وصلت إلى ستة أشهر، لم يتحدث أيضاً عن أكثر من عشرة آلاف سوري قتلوا بنيران الأسد قبل أن ترفع الثورة بارودة واحدة ضد النظام، وهذا هو السبب الأساسي لتسلح الثورة والذي لا يمكن لباحث مبتدئ العبور عليه إن كان يريد فعلاً الوصول إلى حقائق موضوعية..
يتبع..