تبدو فعاليات مونديال كرة القدم في موسكو وكأنها حدث رياضي روتيني منفصل تماماً عن الأبعاد السياسية وحالة الغليان السياسي والعسكري الذي يسيطر على أكثر من بقعة في العالم، والمرشح للانفجار والتوسع في أية لحظة بفضل روسيا بوتين التي تستضيف الحدث.
ورغم أن أحد أهم أهداف الرياضة، هو المساهمة في إرساء الأمن والسلام في العالم، إلا أنه من المفارقة بمكان أن يتم المونديال هذا العام على أرض الدولة التي ساهمت وتساهم بشكل واضح في تأجيج الصراعات والحروب والمشاركة فيها بشكل مباشر، بل وممارسة القتل والإبادة على الملأ، على غرار ما تفعله روسيا في سورية.
ورغم أن أكثر دول العالم، وتحديداً الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، يدينون جرائم روسيا بوتين، -بشكل معلن أحياناً، وضمنياً دائماً- ويحملونها مسؤولية حماية جزار سورية، والتحالف مع قوى الظلام مثل إيران وحزب الله، ويعتبرونها عدواً للحرية والديمقراطية والسلام، ويعتبرون بوتين واحداً ممن يساهمون في التأصيل للديكتاتورية..، رغم ذلك كله، فإن أياً من تلك الدول لم تفكر للحظة بعدم المشاركة في الحدث الرياضي احتجاجاً على الحدث السياسي وتجاوزات بوتين المتفق عليها.
تنطلق فعاليات المونديال في موسكو، فيما لا تتوقف الطائرات الروسية عن شن الغارات وتدمير المدارس والمستشفيات وقتل المدنيين وتدمير منازلهم فوق رؤورسهم في أكثر من بلدة في سورية، وفيما يقبع المندوب الروسي في مجلس الأمن جاهزاً للاحتجاج على أي قرار أممي يحمي المدنيين، أو يحد من جرائم السفاح القابع تحت السلطة الروسية في دمشق.
تنطلق فعاليات المونديال الرياضي بعد أيام من إثبات مسؤولية روسيا عن إسقاط الطائرة المدنية فوق أوكرانيا والتي راح ضحيتها قرابة ثلاثمئة شخص، وبالتزامن مع ارتكابات روسية في عواصم العالم كان آخرها ما حدث في العاصمة البريطانية، ومع كل ذلك لم تفكر دولة واحدة أن تعترض على إقامة الحدث الرياضي على أرض دولة مارقة ومجرمة، بل لم تتخذ أي دولة قراراً بمقاطعة المونديال، أو حتى الإشارة إلى مستوى التناقض بين هدف المونديال والخط السياسي والعسكري للدولة التي تستضيفه.
سياسياً، تحاول الدول االتي تشارك في المونديال، وتحديداً دول الاتحاد الأوروبي أن تروج لحالة تطبيع العلاقة مع روسيا، رغم أن الموقف الحقيقي لتلك الدول يتناقض تماماً مع حالة التطبيع، ففي العمق، تبقى روسيا بوتين عدواً مع وقف التنفيذ، ولربما كانت التهديد الأكبر للسلام في أوروبا، والساسة الأوروبيون يعون ذلك جيداً ويتعاملون مع هذا الافتراض على أنه واقع ولكن دون أن يترجموه إلى موقف معلن.
يتجنب الغرب، أو يحاول أن يتجنب، أي صدام مباشر مع روسيا، رغم توافر كل المعطيات التي تقود إلى ذلك الصدام، ولا سيما في ظل الموقف السياسي “المائع” للسياسة الأمريكية، وفقدان دول أوروبا للثقة في الحليف الأمريكي.
وفي هذا السياق، تبدو مشاركة أوروبا في المونديال -على المستوى السياسي-، كمن يسدد الكرة في مرماه ويسجل هدفاً على نفسه، فالمشاركة تعني التسليم بأن الدولة المستضيفة دولة حضارية ومسالمة، وهذا يتناقض تماماً مع واقع النظرة إلى روسيا بوتين.
وفي هذا السياق، تبدو مشاركة أوروبا في المونديال -على المستوى السياسي-، كمن يسدد الكرة في مرماه ويسجل هدفاً على نفسه، فالمشاركة تعني التسليم بأن الدولة المستضيفة دولة حضارية ومسالمة، وهذا يتناقض تماماً مع واقع النظرة إلى روسيا بوتين.
لا تشكل قوة موسكو أي تهديد حقيقي للدول التي تربطها بروسيا علاقات عداء تقليدية -كالولايات المتحدة- أو علاقات قابلة للتطور إلى حالة خصومة، كما هو الحال مع أوروبا، حيث لا يزال الدب الروسي أعجز بكثير من مقارعة أمريكا أو أصدقائها من دول الاتحاد الأوروبي، فكيف بهما مجتمعين!
غير أن ما يخيف أوروبا تحديداً، ولربما أمريكا أيضاً هو حماقة فلاديمير بوتين، ليس باعتباره قائداً أو رئيساً أو شخصية قوية، بل بسبب امتلاكه للسلاح النووي ومراهنة تلك الدول على طموحاته الجنونية التي قد تؤدي به إلى استعمال ذلك السلاح، باعتباره شخصية غير مسؤولة وخالية من أي حس إنساني.
في الواقع، تسجل روسيا أهدافها السياسية عن طريق التسلل، ولكنها تلعب اليوم دور حكم الساحة وحكم التماس، وحكم الفيديو أيضاً، وهي تستطيع أن ترفع الكرت الأحمر ضد أي لاعب لا يروق لها، فالعقوبة هنا ليست مجرد الطرد من الملعب، أو إيقاف اللاعب عن اللعب، بل الزر النووي الذي يتحكم به بوتين، الذي تجمع تلك الدول على أنه أحمق ومغامر.
يكمن سر الغطرسة الروسية إذن ليس في قوة روسيا، بل في ضعف الموقف الأوروبي والتراخي الأمريكي الذي جعل أوروبا تتعاطى مع الموقف الأمريكي على أنه لا يمكن التعويل عليه، ولا سيما في ظل وجود ترامب في البيت الأبيض، حيث يجمع الأوروبيون على أن ترامب شخص غير موثوق ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته وقراراته.
المباراة الحقيقية التي تتم خارج الاستاد الرياضي، هي تلك التي تلعبها روسيا وكل المافيات الرسمية المتحالفة معها ضد القيم الإنسانية العليا وعلى رأسها قيم الحق والخير والعدالة التي تسعى روسيا لسحقها سواء من خلال اللعب الدبلوماسي أو عبر قرقعة السلاح، فيما جمهور الكرة يغط في سبات عميق في انتظار صافرة النهاية.