تتتابع الصور القاتمة القادمة من أوروبا والتي تختصر النكسة الحقيقية التي تتعرض لها قيم العدالة والحرية والمساواة وحقوق الإنسان التي كانت ركناً أساسياً من أركان قيام الحضارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.
تبدو آخر تجليات هذه الانتكاسة في الموقف العدائي المتصاعد من اللاجئين الذي تتبناه الأحزاب اليمينية المتطرفة، والذي بدأ ينتشر بين الكثير من أحزاب الحكومات الأوروبية بمعظم انتماءاتها واتجاهاتها.
منذ أيام قليلة، رفضت إيطاليا استقبال قارب يضم مئات من المهاجرين غير الشرعيين في ظاهرة تعد الأولى من نوعها ربما منذ نشوء الاتحاد الأوروبي، وتاه المركب في عرض البحر بعد دخوله المياه الإقليمية الإيطالية، ولم يساهم العدد الكبير للأطفال الذين يضمهم القارب في التأثير على الحكومة الإيطالية الجديدة للسماح للمهاجرين بالدخول، إلى أن قامت إسبانيا باستقبالهم.
إن خطورة الموقف الأوروبي الحالي لا تتوقف عند ذلك الموقف المعادي للاجئين، بل في طبيعة التعامل الجديد مع قضية اللجوء، من حيث أسبابها الجوهرية، فمن الواضح أن أوروبا لم تعد تنشغل بتلك الأسباب أو تتوقف عندها.
نسيت أوروبا أو تناست مجرمي الحرب والسفاحين الذين يتسببون بظاهرة اللجوء، والذين دأبت خلال سنوات كثيرة على إدانتهم والمطالبة بمحاكمتهم، قبل أن تغير المسار وتبدأ بإدانة ضحاياهم.
هنا تبدو القضية السورية الامتحان الأصعب والشاهد الأبرز على ذلك التحول، فاللاجئ السوري الذي هرب من بطش النظام وتهديده، لا يختلف عند الحكومات الأوربية عن اللاجئ الهارب من أزمة اقتصادية، أو أية ظروف أخرى أقل بما لا يقاس من الأسباب التي تدفع بالسوريين إلى اللجوء، وباتت المسطرة واحدة في قياس الموقف الأوروبي من اللاجئين، مما يحيل إلى شرخ حقيقي في منظومة القيم الأوروبية أعمق وأبعد من مجرد الحديث عن أزمة اللجوء، وهي الأزمة الأخلاقية التي تشهدها أوروبا والمبادئ التي عاشت عليها لفترة طويلة والتي تتحول اليوم إلى مجرد شعارات صوتية خالية من المضمون.
لقد توقف الحديث تماماً -على المستويين الرسمي والإعلامي- عن جرائم الأسد في سورية، واستبدل بالتركيز على ما تسميه أوروبا “الحرب الدائرة في سورية”، والتي أطلقت عليها أوروبا عنوة مسمى الحرب الأهلية واعتمدت تلك التسمية بشكل نهائي للهروب من المسؤولية عن تحقيق العدالة، بعد التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الساحة السورية.
قد تشفع طبيعة الصراع بين القوى الكبرى على الأرض السورية لأوروبا في التهرب من مسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية في المساهمة بجر مجرمي الحرب إلى المحاكم الدولية، وقد تشفع لها أيضاً غيابها حتى عن ساحة الإدانة أو انحيازها للرواية المعتمدة عالمياً عن سورية، ولكن أن تبدأ بإجراءات مضادة للاجئين كتلك التي حدثت في إيطاليا، فهي ستبدو كمن ينتقم من الضحية بسبب عجزه عن محاسبة الجاني.
إن انكفاء أوروبا عن المشهد السياسي السوري وسكوتها عن مجرم قتل وهجر الملايين من الشعب السوري والتعامل مع الحالة برمتها على أنها شأن محلي، يعتبر بحد ذاته مساهمة في الجريمة وتزكية للقاتل وتبرأته ومساعدته في استكمال مشروعه الإجرامي، وهو نوع من التواطئ المدان، غير أن ذلك كله لا يعادل الموقف الجديد المتشدد من قضية اللاجئين، فاللاجئ هو الضحية التي يجب مساعدتها وفق كل القوانين الإنسانية وليس تجريمها وتحميلها مسؤولية الأزمات الاقتصادية التي تجتاح أوروبا، والتعامل معها على أنها الخطر الأكبر الذي يهدد أمن أوروبا واقتصادها وبنيتها السكانية.
اللاجئ هو الطرف الأضعف في كل الصراعات، والاقتصاص من اللاجئ هو الدليل الأكبر على ضياع البوصلة وتشتت الأولويات وانعدام الضمير الإنساني، وإذا كان ذلك ينطبق على كل اللاجئين على تنوع أسبابهم، فإنه في الحالة السورية يبدو جرماً مضاعفاً.
إن من يتابع الإعلام الأوروبي، سيكتشف مباشرة أن قضية اللاجئين باتت الأولوية الأولى للسياسة الأوروبية، فجميع البرلمانات في تلك الدول تضع تلك القضية في جدول أعمالها الرئيسي، فضلاً عن انعقاد مجموعة من القمم المتلاحقة بين قادة الدول الأوروبية مخصصة لمناقشة قضية اللاجئين، وما يلفت النظر أكثر، هو مستوى حدة الخلاف على إيجاد الحل إلى درجة التهديد بأزمة تلوح في الأفق في العلاقات الأوروبية الأوروبية، والخلاف يتركز بشكل رئيسي، على كيفية التخلص من عبء اللاجئين لا على شكل معتدل للتعامل معهم.
في هذا السياق، لا تبدو الولايات المتحدة الأمريكية بحال أفضل، فمنذ أيام أيضاً تم سجن اللاجئين القادمين من أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة، ولم تكتف الحكومة الأمريكية بذلك، بل قامت بفصل الأطفال عن ذويهم، مما دفع بالكثير من الأمريكيين للقيام بمظاهرات أدت إلى إجبار ترامب على العدول عن قرار الفصل ذاك، ولكنه قام بسجن الأطفال مع ذويهم، واعتبر ذلك انجازاً كبيراً على ما فيه من اتتهاك لحقوق اللاجئين، غير أن
المشكلة الكبرى لا تكمن في الإجراءات، بل في الخطر الحقيقي الذي تتعرض له القيم الإنسانية على أيدي صناع الحضارة ذاتهم والمدافعين عن حقوق الإنسان.
أي مصير ينتظر العالم حين يتحول قادته إلى رزمة من العصابيين الفاقدين لأي نوع من الإنسانية، والحكمة، في ظل تزايد التحديات وتفاقم المشاكل التي تتطلب شكلاً مناقضاً تماماً لطرق المعالجة المتبعة اليوم والتي لن تؤدي إلا إلى مزيد من تدمير القيم، والذي سيجر كل أنواع الدمار وعلى كل المستويات..