تعترف وزارة الدفاع في روسيا الاتحادية بشكل رسمي أن حوالي 48 ألف عسكري شاركوا في الأعمال العسكرية على الأراضي السورية منذ أيلول 2015، وبحسب بيانات وزارة الدفاع الروسية، فقد خسرت القوات الروسية خلال عملياتها في سوريا أربع طائرات مقاتلة وأربع طائرات هليكوبتر، واعترفت رسمياً بوفاة 41 جندياً روسياً في سوريا.
في الواقع إن الخسائر الروسية في سوريا أعلى بكثير من ذلك.
على سبيل المثال، وثّقت خسارة 19 طائرة روسية في سوريا، يشمل هذا الرقم طائرات ومروحيات استهدفتها المعارضة ودمرتها عن طريق أسلحة خفيفة ومنظومات صاروخية محمولة، فضلاً عن طائرات معطلة نتيجة عيوب فنية.
كما قتل من الأفراد أكثر بكثير من الأرقام المعلنة، وكمثال على ذلك، يمكن أن نأخذ حادثة تدمير وحدة الشركة العسكرية الخاصة الروسية “فاغنر” في فبراير الماضي في محافظة دير الزور، حيث قُتل هناك نحو 100 من المرتزقة الروس.
عدم اعتراف موسكو بخسائرها تصرف عادي ومتكرر، فروسيا تنكر بشكل قاطع مشاركة قواتها في القتال في دونباس شرق أوكرانيا، ومع ذلك لا يخفى ازدياد أعداد قبور الجنود الروس حول المدن والقرى حيث تتمركز الوحدات العسكرية هناك، وتعلن السلطات الروسية أن موت الجنود لأسباب مختلفة، كالأمراض والنوبات القلبية والحوادث المرورية، لكن ليس في حال من الأحوال “رحلة قتال” في دونباس.
وفي حادثة أخرى، أسر الجيش الأوكراني عشرات الجنود الروس، مع طاقم كامل من الوثائق العسكرية الشخصية وعلى متن مدرعات روسية، وكان جواب موسكو الجاهز “لقد ضيّعوا طريقهم”، وهذه ليس نكتة، فهكذا يعلّق الكرملين رسمياً على مثل هذه الأحداث.
أما في سوريا، فتعترف روسيا بتواجد جنودها وأسلحتها، وتقول إن أحد الأسباب الرئيسية لتدخلها العسكري هو “الحصول على الخبرة القتالية واختبار الأسلحة الجديدة”.
وأعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، إن روسيا قامت باختبار 210 أنواع من الأسلحة الجديدة في سوريا، ووفقاً للوزير شويجو، فإنه يجب “إدماج التجربة السورية بسرعة في نظام التدريب القتالي الروسي”.
لكن ما هي التجربة التي حصل عليها الروس في سوريا؟، هل هي خبرة تدمير المدارس والمستشفيات في ظل غياب أنظمة الدفاع الجوي؟، وهل نسمي إطلاق النار واختبار أسلحة جديدة في ميدان التجربة على أهداف غير محمية بالخبرة القتالية؟، أم أن اكتساب الخبرة واختبار الأسلحة مهمة تكتيكية لها استراتيجيتها؟
انسجام تعدد الأصوات
في أيار الماضي، نشرت صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” اليومية الروسية، تقريراً مطولاً بعنوان “روسيا في الشرق الأوسط: انسجام تعدد الأصوات”، شارك فيه عدد من المستشرقين الرواد والمؤلفين الروس في “معهد الدراسات الشرقية” في “أكاديمية العلوم الروسية”، منهم فيتالي ناومكين، المدير العلمي للمعهد، وإيرينا زفيهيلسكيا، كبيرة الباحثين في المعهد وفاسيلي كوزنيتسوف، مدير مركز الدراسات العربية والإسلامية.
وفي سياق الحديث عن الأوضاع في سوريا، يشير معدو التقرير إلى أنه رغم وجود عدد من النتائج الإيجابية التي تحققت نتيجة الهزيمة العسكرية لـ “تنظيم الدولة الإسلامية”، إلا أن الوضع لا يزال غير مستقر وبعيداً عن الحل.
ويقول التقرير “إن ميزان القوى الحالي يؤدي إلى تحديات ومخاطر جديدة، وقد يهدد تغيير ميزان القوى، بأن يصبح عاملاً مثبطاً لجزء من المعارضة التي تمتنع من المشاركة في المفاوضات، في ظل غياب موقف موثوق وقوي للمساومة، وفي الوقت نفسه يمكن أن يعتمد نظام الأسد على النصر العسكري، أكثر من اعتماده على ما يمكن أن يحققه نتيجة المفاوضات”.
وبحسب التقرير، فإن تعقيد الوضع السوري ليس فقط بسبب عدم رغبة، أو عدم قدرة، اللاعبين المحليين في قبول التنازلات، ولكن الحقيقة أن الحرب السورية تتشابك فيها مصالح اللاعبين الأجانب على المستوى العالمي والإقليمي، الأمر الذي يخلق عقبات إضافية وصراعات تقف في وجه التسوية السياسية.
إلا أن التقرير يشير بوضوح تام أن الهدف الروسي الأول في سوريا هو استخدام الصراع لاستعادة الحوار الروسي مع الغرب، والذي كان قد توقف فعلياً بعد العدوان الروسي على أوكرانيا، يقول التقرير “بشكل عام، ما تم تنفيذه في سوريا لا يتعدى تنسيقاً بين روسيا والغرب، لمنع وقوع اشتباكات بين القوى العسكرية وتبادل المعلومات، وعلى خلفية تدهور العلاقات الروسية في الساحة العالمية، ساعد الصراع السوري في تخفيف التوتر، ولكنه في الوقت نفسه كان محركاً لخلافات أخرى”.
ماذا ربحنا في سوريا؟
في مقال آخر، نشرته وكالة أنباء روسيا “ريا نوفوستي”، تحت عنوان “ماذا ربحنا في سوريا؟، اعتبر أستاذ العلوم السياسية الشهير في الجامعة المالية التابعة للحكومة الاتحادية، جيفورج ميرزايان، أن الأهداف الرئيسية الثلاثة للتدخل الروسي في سوريا قد آتت أُكلها، وبدأت روسيا بالفعل تجني أربحاها، يقول ميرزايان “نحن نتحدث عن مكافحة جماعات إرهابية دولية (داعش)، وإنقاذ الدولة السورية (العلمانية)، وحماية روسيا نفسها (الكثير من مسلحي الجماعات الإرهابية هم مواطنين روس)”.
هنا، ينقل ميرزايان حقيقة الموقف الرسمي للكرملين، وهو بالتأكيد لا يعكس الحقيقة، إذ شهد العالم بأسره كيف قصفت الطائرات الروسية للمدنيين في مناطق المعارضة السورية، وليس فقط مواقع “داعش”، وموسكو كانت تنقذ حليفها بشار الأسد، وليس علمانية سوريا، ولهذا السبب تحديداً أرسلت مواطنيها إلى سوريا.
إلا أن ميرزايان، وفي ختام تقريره، يحدد بوضوح الهدف الحقيقي لروسيا في سوريا، يقول “ما لم يحدث هو وضع أجندة بنّاءة للعلاقات الروسية الأمريكية”، الأمر الذي اعتُبر دعوة للولايات المتحدة للتفاوض على نظام عالمي جديد، ليس أحادي القطب، ويؤكد الباحث “نعم، هذا هو بالضبط سبب مشاركة موسكو في الأزمة السورية، ومع ذلك فإن واشنطن لم تقدّر العرض الروسي، وتواصل اتباع مسار المواجهة مع روسيا الاتحادية”.
لا يخفي مستشرقو الإعلام الروسي وأساتذة الجامعات الحكومية الروسية أن موسكو تستخدم سوريا كورقة مساومة في الحرب ضد الغرب، وبمجرد حصولها على صيغة الاتفاق الذي يناسب مصالحها، فإنها، بسهولة ودون تردد، ستتنازل عن شركائها في الجريمة السورية.