لا تغلقوا النوافذ على الشمس .. فلا تزال الجهات بلا صهيل .. ولا نزال ننزف أرصفة من أقدام خائفة ومن دفق دماء اكتظت في نبضها قوافل جياد استوطنها رعب مفاجئ. لا تغلقوا النوافذ على نبضنا الأخير، فالجهات هنا في منعرجات دمنا الأخضر في تيه أحزاننا المتكاثرة كغبار عاصفة آتية من الجنوب البعيد.
الجهات، تقول مي سكاف: هي البلاد التي يتكاثر فيها الفطر المسموم ويتفجر في جنباتها لون القيء والوجع لذا ارفعوا الصوت عالياً وقولوا للهواء ولشجر الجوز الدمشقي “سوريا بدها حرّية”.
والحرية طفلة نمت في غفلة الجلاد، تأبطت حقيبتها وأحلامها ومضت لا تلوي على شيء، كان الياسمين الدمشقي يزرع عبقه في رئتيها فتنظر الصغيرة إلى قاسيون وتهمس له أنت حارسنا الأمين وسنزرع الطرقات إلى قلبك بالسرو والصنوبر وبأعشاش اليمام.
يبتسم قاسيون للصغيرة ويقول لها: قلت لي أن اسمك مي ؟ تهزّ الصغيرة رأسها بعلامة الإيجاب وفي اللحظة ذاتها يصل إلى أذنيها صوت زمجرة مكتومة، الزمجرة تغدو كلاماً، الكلام يقول لمي: هذه الأرض ستميد تحت أقدام غزاتها فلا تخافي حين تتجمع خيول العاصفة الأخيرة؟.
لم تدرك مي معنى الكلام ولم تعرف كيف تكاثر اللصوص في شوارع المدينة.
كانت مي تُحسّ أن دمشق صبية خائفة، رعشة خوفها تمتزج بغضب يفرش حقوله في الدم، كان صوت بعيد وكأنه هتاف يصل إلى أذنيها مشوشاً تلوثه حشرجات سيارات عابرة، يقترب الصوت شيئاً فشيئاً تتضح جباله ووديانه، يقول الهتاف: سورية تريد الحرية.
كانت حارات دمشق تحس بإقتراب الجلجلة، فلقد اعتلى العسكر متن قاسيون ووزعوا رصاصهم وحقدهم على البيوت في الغوطتين.
كان عصفور صغير ينام ساكن الجناحين في نبض مي سكاف التي مضت أصابعها تكتب على جدرانها وقلبها وفي عينيها “سوريا أمنا العظيمة وهي ليست سورية الأسد”.
كان الناس في المدن السورية يرسمون صوراً مختلفة لصبية تُدعى الحرية، لكن الطاغية وكان يسمى آنذاك أسد لم يحتمل هذه الأغاني والهتافات فصاح في عسكره: لا أريد أن اسمع أي هتاف بعد اليوم ولا أريد أن يغني أحد عن الشجر والشمس والهواء، ثم قهقه بصوت أراد له أن يشبه الزئير في البراري، لكن صوته كان أقرب إلى بكاء من فقد دفة مركبه في فم العاصفة.
أطلق العسكر الرصاص على كل صوت .. سقط كل شيء في البلاد مضرجاً بدمائه، هوت الغيمات جريحةً على أشجار الزيتون والتفاح في الغوطتين.
كانت مي في هذه اللحظة قد صارت شجرة جوز عظيمة لذا وقفت أمام محققها وقالت له بصوت بسيط واضح مليء بالغضب: لن أقبل أن يحكم ابن الأسد ابني ولن نرضى أن يحتجز العسكر أصواتنا وغضبنا وضحكاتنا وفرحنا … كان المحقق يُحس بغضب الخائف فتلاحقت ضربات كفيه على جسد مي سكاف.
كانت مي في هذه اللحظة قد صارت شجرة جوز عظيمة لذا وقفت أمام محققها وقالت له بصوت بسيط واضح مليء بالغضب: لن أقبل أن يحكم ابن الأسد ابني ولن نرضى أن يحتجز العسكر أصواتنا وغضبنا وضحكاتنا وفرحنا … كان المحقق يُحس بغضب الخائف فتلاحقت ضربات كفيه على جسد مي سكاف.
كانت دمشق في هذه اللحظة طفلة خائفة .. وكانت مي سكاف مسكونة بوطن لا يرضى أن يعود إلى قمقمه، مي التي خرج جسدها من دمشق بقيت هناك شجرة جوز يبحث عن ظلها العسكر المسكونون بالخوف والذين يبحثون عن مواقع لأقدامهم المسكونة بعدم اليقين.
مي التي ماتت اليوم غريبة وبعيدة ونائية لم تمت، مي صارت نجمة جرحنا الوطني الذي لا يزال دافقاً بغضبه العميق والذي ينتظر عودة طفلة صغيرة تدعى مي إلى بيتها الأول.