ثمة أفكار ذات طبيعة إشكالية تتعلق برحيل الفنانة الثائرة مي سكاف.
الفكرة الأولى: مي سكاف رحلت.
الخبر مثير، ومؤلم، لأن “مي” ما تزال في ريعان الشباب، عمرُها 49 سنة، والتحقيقات الجنائية التي قامت بها الشرطة الفرنسية أسفرتْ عن أن موتها لم يكن بفعل فاعل، وإنما هو موت طبيعي ناجم عن نزيف حاد في الدماغ سببه مرض قديم، والذين يموتون موتاً طبيعياً يكونون -عادةً- من الأشخاص الذين تجاوزوا متوسطَ الأعمار، ودخلوا في مرحلة الزمن الضائع، يعني، على قولة عمي أبو صلاح، الواحد شو ما عاش بعد السبعين نعمة من الله!
الفكرة الثانية: تبين أن مي سكاف ليست مسيحية، مثلما حاول بعضُ المُغرضين أن يوهمونا، لاعتقادهم، أو ليقينهم أننا لا نترحم على مسيحيين!
قبل بضع سنوات كنا نعيش نحن والمسيحيين، والدروز، والشيعة، والـ ما بعرف شو، على الخير والشر، والحلوة والمرة، وبيوتنا لا يفصلها عن بعضها سوى حائط صغير، يعني، على قولة أهل معرة مصرين (الحيط ع الحيط)، وفي إدلب، بعد قيام الثورة، وبالتحديد يوم 31 ديسمبر 2011، خرج الألوف من ثوار إدلب (كنا أنا والمرحوم تاج الدين الموسى بينهم) إلى أمام كنيسة العذراء، ليعلنوا حبهم لإخوتهم المسيحيين، ويحتفلوا بميلاد نبيهم.
وهنالك عشرات الأمثلة التي ربما يُدخلنا استعراضها في الملل، ولكن الأحداث التي عصفت بالوطن السوري، والحرب القذرة ذات الأجندات غير الوطنية التي قادها وريث حافظ الأسد وطغمته المجرمة بالتعاون مع دولة الولي الفقيه وحزب الله، جعلت (قسماً كبيراً) من أبناء الأديان والمذاهب قليلة العدد يلتحمون بأديانهم ومذاهبهم، وبعد الالتحام يقف بعضهم الآخر في مواجهة الثورة، وبعضهم على الحياد.
وفي موسم التعصب صار (قسمٌ كبير) من الثوار السنة متعصبين لسُنِّيَتِهم، وتعصب العربي لعروبته، والكردي لكرديته، والتركماني لتركمانيته (إلا من رحم ربي)، ودافع قسم لا بأس به من هؤلاء عن “صدام حسين” ولقبوه أسد السنة، وتَفَلْسَفَ قسمٌ منهم، وقال: يعني، صحيح صدام كان مستبداً (يخجل أن يقول مجرماً)، ولكنه تحدى الأميركان، وتصدى للمد الفارسي.
والله لو كان ستالين مسلماً سنياً لسامحه بعضُ ثوارنا بدماء ملايين الناس الذين قتلهم وطمرهم في مقابره الجماعية.
الفكرة الثالثة: لعل أغرب ما حدث في خضم رحيل مي سكاف هو أن بعض الثوار راحوا يجرون مقارنة بينها من جهة، وبين جوليا بطرس وزياد الرحباني ومارسيل خليفة من جهة أخرى.
إن هذه المقارنة، برأيي، ناجمة عن خطأ منطقي ورؤية ثورية حماسية تفتقر للتدقيق. فجوليا بطرس مغنية، أو مطربة، بينما مي سكاف ممثلة، ولا يوجد وجه للمقارنة بينهما إلا من ناحية الموقف، وانحياز إحداهما للحق، والثانية للاستبداد.
ومي لم تكن مؤلفة موسيقية (موسيقار) لنقارنها بزياد الرحباني ومارسيل خليفة، وبالمناسبة، أنا شخصياً أحب هذين الفنانين الكبيرين، ولكنني أستنكر مواقفهما، ولعله من باب الطرافة أن نقول إن موقف زياد الرحباني من المجرمين التاريخيين أمثال ستالين وحسن نصر الله وبشار الأسد لا يختلف كثيراً عن موقف محبي صدام حسين، وبالمناسبة، هناك أناس يحبون صدام حسين ليس لأنه سني، وإنما لاعتبارات أخرى شبيهة باعتبارات زياد.
الفكرة الرابعة: زعلنا على “مي” لأنها ثائرة، يعني محسوبة علينا نحن الثوار، هذا إذا كنا ثواراً بالفعل، وأنا أعتقد أننا كنا، في البداية، ثواراً من موديل غياث مطر وفدوى سليمان ومي سكاف وسميرة الخليل، ثم بدأ “كازُنا” ينفد مع توالي الأيام والسنين، ليتحول بعضُنا إلى دواعش، وبعضنا الآخر إلى نصراوية، وأحرار، وجُنْد، و(تضفدع) بعضُنا وعاد إلى حظيرة الأسد، يعني، بالعربي، “انسطلنا”، وصار حالُنا شبيهاً بحال السيدة التي كتب عنها عاصي الرحباني في صحيفة “الحرشاية” (أربعينات القرن العشرين): فضربتُها كَفَّاً شَقْلَبْهُا، طَحْبَشْهُا مثل البيضاتْ، بَرْمِتْ بَرْمِتْ بَرْمِتْ بَرْمِتْ شَبْقِتْ خلف الكنباياتْ.
من هنا، ونحن نحاول أن نصحو من هذه “الطحبشة”، نقول إن بقايا الثوار القابضين على جمر ثورتهم، محسوبون على مي سكاف، خاصة وأنها قالت، قبل أن ترحل، إن “هذه سورية العظيمة وليست سورية الأسد”، الجملة القريبة بالمعنى من هتاف الفنان محمد آل رشي في بداية الثورة، إن كنتم تذكرون.