طرح علي الصديق ثائر فكرة الخروج بعد الدوام، برفقة الصديق مالك، وتناول العشاء في مطعم تركي مطل على البحر.
قلت له: شيخ محمد!
لم يفهم قصدي، فغَيَّرَ الاقتراح بأن نذهب نحن الثلاثة إلى مطعم سوري شعبي في منطقة “آك سَرَاي” يقدم الفتات والحمص والفول والفلافل. فقلت له: (شيخ محمد).
ووقتها سحب كرسياً، وجلس بقربي، وقال لي:
– أنت دائماً كلامك ملغوم. أيش يعني شيخ محمد؟
قلت له: خذها قاعدة، حينما أقول لك (شيخ محمد) فهذا يعني أنني (موافق).
وقصصتُ عليه الحكاية التالية:
في فترة حافظ الأسد التي امتدت بين 1970 و2000، كان ثمة رجل اصطلحنا على تسميته الشيخ محمد، وكان عضواً دائماً في مجلس الشعب. في كل دورة برلمانية مدتها أربع سنوات يتبدل أعضاء المجلس الآخرون، ويبقى الشيخ محمد ثابتاً في مكانه. حاول كثيرون من هواة المناصب أن يكونوا مثله، أي أن يحصلوا على تمديد عضويتهم في المجلس عدة دورات، ولكنهم أخفقوا.
هناك سببان رئيسيان لهذه الظاهرة. الأول هو أن الشيخ محمد زعيمُ عشيرة مؤلفة من بضعة آلاف من الأنفار الذين لا يعطونه أصواتهم فقط، بل وممتلكاتهم، وأرواحهم، وبالنسبة للانتخابات هم يعتبرونها مسألة ثانوية غير قابلة للأخذ والرد، فإذا شاء الشيخ محمد أن يحتجز هوياتهم الانتخابية لديه في المضافة، ويبادل عليها الأصوات مع مرشحين آخرين، هو حر، وإن شاء أن ينتخب بها نفسه فقط، يعني، كما يقولون، يضع لنفسه أوراقاً بيضاء، لا يوجد مانع، وإذا خطر له أن يسكب على البطاقات قليلاً من الكاز ويحرقها، فهو يمون بالطبع.. والسبب الثاني أن الشيخ محمد مُوَالٍ للسيد الرئيس حافظ الأسد، ولأهل السيد الرئيس، ولمرافقي السيد الرئيس، ولكل من يأتي من طرف السيد الرئيس.. وبالتالي فإن بضعة الآلاف الذين يوالون الشيخ محمد موالون للسيد الرئيس بالضرورة.
يقول قائل: ولكن حافظ الأسد كان يحكم قرابة عشرين مليوناً من السوريين، فلماذا كل هذا الاهتمام ببضعة الآلاف الذين يتزعمهم الشيخ محمد؟
الجواب: إن حافظ الأسد كان يفكر دائماً على نحو استراتيجي، لذلك أراد أن يجعل الشيخ محمد أنموذجاً يحتذى أمام زعماء العشائر والطوائف والتجمعات العائلية الأخرى، ويعطيهم درساً مفاده أن مَن يُصَفّي نيته ونية جماعته، ويكون مع السيد الرئيس قلباً وقالباً، يبقى معززاً ومكرماً في سورية الأسد، مثل الشيخ محمد وحبة مسك.
كانت للشيخ محمد، بحسب ما روى عنه الأشخاص الذين مروا بمجلس الشعب في إحدى دوراته، عاداتٌ ثابتة، يعرفها الجميع، منها أنه لا يجلس إلا على الكرسي الثاني من الصف الأخير من مجموعة الكراسي التي تقع إلى يسار منصة رئيس المجلس، فإذا أخطأ عضو غشيم وجلس مكانه، فإن الشيخ محمد يصل، ويسلم على الزملاء، ويبقى واقفاً إلى أن يأتي عضو آخر ويهمس للعضو الجالس ناصحاً إياه أن يغير مكانه، فإذا امتثل العضو للنصيحة وقام من مكانه فإن الشيخ محمد يشكره واضعاً يسره على صدره، ويمتدحه بأجمل العبارات، وإذا كانَ رأس العضو جزمة قديمة، ورفض التخلي عن الكرسي، يقول له الشيخ محمد: اقعد أخوي اقعد، المجلس مجلسك، ونحن هون كلنا أخوة، وكلنا ضيوف عند السيد الرئيس.. ويبقى واقفاً إلى أن يتكاثر الزملاء على العضو الجالس، ويقنعوه بالتخلي عن الكرسي للشيخ.
ومن عاداته الأخرى أنه كان، حينما تحتدم المناقشات الاقتصادية والسياسية والحقوقية والسياحية والتموينية التي لا يفهم منها شيئاً، يُرسل بصره في الفراغ، يساعده على ذلك أن كرسيه موجود في أعلى الصفوف، وبعد قليل ترتفع يده اليمنى إلى الأعلى وتقبض على الطرف الأيمن من شاربيه، وتبدأ بتفتيله، ثم يعيده ببطء إلى وضعية الإسبال، ثم ينقل أصابعه إلى الطرف الأيسر، ويتعامل مع الشارب الآخر بالطريقة ذاتها، إلى أن تقطع شرودَه نقراتُ الرئيس على الطاولة، مع عبارة (تصويت يا زملاء)، ووقتها كان يفلت شاربيه، ويرفع يده، ويقول: موافق.
خاتمة: وقلت لثائر، وهكذا ذهبت مثلاً، إذا سئلت عن شيء، وقلت (شيخ محمد) فهذا يعني أنك موافق!