“معظم الفتيات العاملات في هذا المجال يتعرضن لتحرش لفظي أو بصري، فضلاً عن رفض الناس تواجد الإعلاميات في الشارع”، هذا ما قالته الناشطة سراب محمد في تعليقها على معاناة الصحافيات والناشطات الإعلاميات في إدلب شمال سوريا، تكمل سراب (اسم مستعار لأسباب أمنية): “المجتمع هنا يعتبر العمل في مجال الإعلام فقط للرجال، أما النساء لا يمكنهن العمل، هناك ضغوط اجتماعية كبيرة نتعرض لها”.
تواجه سراب وغيرها العشرات من الناشطات الإعلاميات شمال سوريا، ضغوطًا كبيرة خلال عملهن في الشمال السوري وخاصة محافظة إدلب الخاضعة بمعظمها لإدارة تنظيم (هيئة تحرير الشام)، حيث تعاني الناشطات بصورة أساسية من خطر الموت نتيجة القصف المتكرر للمنطقة من الطيران الروسي وطيران النظام السوري، إضافة لخطر الاغتيال أو الاختطاف من قبل المسلحين المجهولين أو المؤسسة الأمنية التابعة لـ(هيئة تحرير الشام) والتي تضيق على الصحفيين هناك.
أخبرتنا سراب موقفًا تعرضت له مؤخرًا حيث لجأت لأحد الأشخاص لاستدانة مبلغ بسبب عدم كفاية مورد عملها الصحفي، ولكن هذا الشخص حاول الاعتداء عليها وتحرش بها جسديًا، غير أن أحد الأشخاص أنقذتها في اللحظة الأخيرة وسببت لها هذه الحادثة خلعًا في كتفها، وتشير إلى أنها بقيت لمدة أسبوع في المنزل دون أن تتكلم مع أحد، ولكنها في النهاية قررت المواجهة، تقول سراب: “ذهبت إلى الذي حاول الاعتداء علي، وأخبرته أنني سأتقدم بشكوى ضده، و ألاحقه قضائيًا، فأنكر فعلته، ثم أحضرت إعلاميين ومن بينهم زميلة لي تعمل بالإعلام تعرضت للتحرش أيضًا من ذات الشخص، ما اضطره للاعتراف بذنبه ودفع مبلغ مالي كتعويض لما قام به”.(يذكر أن أصول المحاكمات في إدلب يتم الاعتماد فيها غالبًا على القانون السوري إضافة لاجتهادات شرعيي حكومة الإنقاذ، ولايتم تدوين القضية في حال حدوث صلح بين المُدّعي والمُدعى عليه ويتم سقوط الحق العام بمجرد إسقاط الحق الشخصي).
“احتشمي بلباسك” أو “لماذا أنتي في الشارع أو المظاهرة ولم تغطي وجهك” كلمات غالبًا ماتسمعها سراب وغيرها من الإعلاميات من الناس في الشارع، وتضيف لنا: “الفتاة التي تقول إنها لم تتعرض لانتهاك حتى الآن، توقعوا أن تتعرض له في المستقبل، كما أن كثيرًا من الفتيات يخفن الحديث عن الموضوع، لذلك يقلن إنهن لم يتعرضن لأي تحرش”.
شادية تعتاع وهي إعلامية بريف إدلب تعرضت لتحرش مشابه لما حصل مع سراب، تسرد لنا ماحصل معها: “اضطررت للتحدث مع مدير أحد المراكز من أجل تصريح صحفي لتقرير أعمل على إعداده، ولكن المدير بدء يتعرض لي ويعرض علي إقامة علاقة، ما اضطرني لإلغاء فكرة كتابة التقرير وقطع التواصل مع المدير مباشرة”.
تتعرض الناشطات لمضايقات من أنواع مختلفة، حيث وصلنا من مصادر مطلعة أن”إحدى الصحافيات حاولت الحصول على بطاقة صحفية من حكومة الإنقاذ، واحتاجت لصورة شخصية، فأتى صديقها إلى الحديقة وأراد التقاط صورة لها، إلا أن (هيئة تحرير الشام) حضرت وقامت باعتقالها هي وزميلها، ولم يخرجا إلا بعد تعرض السجن لقصف جوي قربه”، تشير شادية إلى:”عدم موافقة حكومة الإنقاذ على منح البطاقة الصحفية ما يؤثر على عمل الناشطات الإعلاميات بشكل كبير، ولا يستطعن التنقل بحرية، ما يؤثر على فرص العمل، و يدفعهن للعمل بأجور زهيد”.
توجهنا إلى منسقة السلامة المحلية في (شبكة الصحفيات السوريات) بشرى الدخيل، التي وضحت أن “أبرز التحديات التي تتعرض لهنَّ الصحفيات والإعلاميات في الشمال السوري والتي تشكل خطراً على حياتهنّ وحياة أسرهنَّ، اتهامهن بالكفر والإلحاد”، موضحة أن هذه الاتهامات “تمثل اتجاهاً خطيراً، بدأت ملامحه تزداد بشكل كبير”، حيث أنه “في أغلب الأوقات تُمنع الصحفيات من العمل الميداني، وتحجيم دورهنّ إلى إعداد وكتابة التقارير والقصص التي تخص قضايا المرأة والأسرة”.
وأكدت الدخيل أن مؤسسة شبكة الصحفيات “تقف جنباً إلى جنب مع الصحفيات السوريات وترفض أي انتهاك وتقدم الدعم والمساندة لهنَّ تجاه أي نوع من المخاطر التي قد يتعرضنَ لها ومتابعة أي شكوى تُقدم إلى المؤسسة”، وتابعت: “تعتبر المؤسسة أن التمييز ضد الصحفيات والإساءة لهنَّ يُعد مسّاً بحقهنَّ في الكرامة والمساواة وبمبادئ العمل الصحفي، وتدعم المؤسسة الصحفيات في نضالهنَّ من أجل نيل حقوقهنَّ وعدم التسامح مع أي شكل من أشكال العنف والتحرش والتنمر بكافة أشكاله بحقهنّ”.
لايمكن الحصول على إحصائيات دقيقة لحالات التحرش والعنف التي تعرضت لها الناشطات الصحافيات في الشمال السوري، وفي سوريا عمومًا، سيما وأن آلية الإحصاء في مناطق تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام هو أمر يكاد يكون مستحيلاً في ظل التدقيق والمنع الذي تفرضه الهيئة على الصحفيين، كما أن هكذا إحصاء قد تراه الهيئة أنه سلاح سيوجه ضدها، وينطبق الأمر نفسه على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
(المركز السوري للحريات الصحفية) يحاول جاهدًا توثيق وملاحقة هذه الانتهاكات، كما يشير القاضي إبراهيم حسين مدير المركز، ويضيف: “خلال عملنا قمنا بتوثيق 35 انتهاكاً تقريباً ضد الإعلاميات في سوريا منذ آذار 2011، وكلها انتهاكات صريحة تراوحت بين القتل والاعتقال والاحتجاز والضرب والتهديد وغير ذلك، لكننا واثقون أن هناك كثيرًا من الانتهاكات الأخرى التي لم نتمكن من توثيقها وغالباً لرفض أصحابها إثارتها في الإعلام نظراً لطبيعة الانتهاك نفسه، فهناك حالات متعددة تتمثل في التحرش و التجاوز على الحقوق المالية أو الحقوق التي تفرضها قوانين العمل، وكل هذه الانتهاكات رصدناها لكن لم نتمكن من توثيقها بسبب تكتم من تعرض لها”.
يضيف حسين: “يمكن القول إن معاناة الزميلات الإعلاميات كانت مضاعفة في سوريا، لأن العمل بحد ذاته في المجال الإعلامي يستدعي حكماً وجود ضغوط مرتبطة بطبيعة المهنة نفسها إضافة لكونهن نساء في مجتمع لا تزال فيه النظرة لعمل المرأة في مجالات كثيرة بمثابة خرق للأعراف والعادات”، أما من الناحية الحقوقية يوصّف حسين هذه الانتهاكات: ” لاشك أن هذه الانتهاكات تخرق المواثيق الدولية، وبعضها مثل (القتل-الاحتجاز) تدخل ولاشك في إطار جرائم الحرب؛ لأنها وقعت ضد الصحفيين وهم مدنيون ويفرض نظام روما الأساسي على أطراف النزاع ضمان حمايتهم، ولا ننسى أن نشير إلى أن بعض الانتهاكات التي تتعرض لها الإعلاميات مجرّمة بموجب القوانين الجزائية أو الجنائية في كل دول العالم كالتحرش الجنسي”.
كل الانتهاكات التي ارتكبت ولا تزال ترتكب في سوريا ضد الإعلاميات والإعلاميين تعد خرقاً للمواثيق الدولية واعتداء على مبادئ حقوق الإنسان وتتعارض مع المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي نصت على أن “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”، كما تنص المادة 14 من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة على تجريم التحرش بالنساء في أوقات الحروب.
وكانت منظمة (مراسلون بلا حدود) أشارت في تقريرها الصادر في الثامن من آذار/ مارس الماضي بمناسبة اليوم العالمي للمرأة: “بقدر ما تتزايد أعداد النساء اللائي يمتهنَّ الصحافة، بقدر ما تتزايد معاناتهن أمام وتيرة القمع الذي تمارسه ضدهن الأنظمة الاستبدادية، ونسبة النساء المعتقلات بين الصحافيين ارتفعت إلى 8 بالمئة فيما كانت لا تتجاوز 3 بالمئة قبل خمس سنوات، وتتركز عمليات الاحتجاز في تسع دول في العالم بينها سوريا”، ونشرت أن “العديد من النساء يختارن الصمت على الصعوبات والمخاطر التي يواجهنها أثناء ممارسة عملهن، ونقلت عن عدد كبير من الصحافيات أنهن تعرضن للترهيب أو التهديد أو الاعتداء بسبب نشاطهن الإعلامي، كما تعرض عدد كبير من الناشطات للتحرش الجنسي”.
بمناسبة #اليوم_العالمي_للمرأة ، تُسلط RSF الضوء على الصحفيات ال27 المحتجزات، أن بعضهن يقبعن خلف القضبان في ظروف لاإنسانية، حيث يتعرضن لشتى أنواع التعذيب والتحرش الجنسي. وفي هذا الصدد، تطالب المنظمة بإطلاق سراحهن فوراً ودون قيد أو شرط.#IWD2019
— مراسلون بلا حدود (@RSF_ar) March 7, 2019
https://t.co/1zdB7pCheO
وحول الحلول الممكنة لهذا الانتهاك، نوّهت الدخيل بإمكانية تظافر “جهود الهيئات والمجموعات الإعلامية السورية والدولية لاتخاذ الاجراءات المناسبة لفضح هذه الممارسات والاعتراض عليها والعمل على حماية الصحفيات من هذه الأخطار، والتشبيك مع وسائل الإعلام المحلية والدولية ومنظمات المجتمع المدني التي تدعم حرية الصحافة والتعبير، لإقامة مبادرات واتخاذ الإجراءات ذات الصلة التي تضمن سلامة الصحفيات وحرية التعبير، وتشجيع الصحفيات على توثيق الانتهاكات الذي تتعرضنَ لها بكافة الوسائل المُمكنة”.
وتحاول شبكة الصحفيات العمل على إنشاء منصة إلكترونية لاستقبال الشكاوى الانتهاكات الجسدية والنفسية والرقمية، وحملات مناصرة على السوشال ميديا ضد المخاطر التي تتعرض له الصحفيات ومرتكبيها، وزيادة الوعي بسلامة الصحفيات من خلال التدريبات، والأنشطة وورشات العمل، وزيادة الوعي بالتهديدات والإساءات والمضايقات التي قد تتعرض لهنَّ الصحفيات عبر الإنترنت، ومساعدة المؤسسات الاعلامية على وضع سياسات منع تحرش ومعاقبة مرتكبيها، وتأمين المشورة والمساعدة سواء مايخص الأمن الرقمي أو حالات الإخلاء في حالات الطوارئ، إضافة للدعم النفسي وتوثيق الانتهاكات واحصائها” بحسب ماقالت بشرى الدخيل.
#سوريا: الصحفيون مهددون بالقتل من قبل هيئة تحرير الشام في محافظة #إدلب. وفي هذا الصدد، تدين مراسلون بلا حدود التخويف المستمر الذي يطال الصحفيين.https://t.co/q5QncROT0P
— مراسلون بلا حدود (@RSF_ar) November 15, 2019
ما تتعرض له سراب وشادية وغيرهن العشرات ممن لم تصلنا قصصهن بعد ما زال مستمرًا في الشمال السوري حيث أصدرت منظمة (مراسلون بلا حدود) بيانًا صحفيًا قبل أيام شجبت فيه انتهاكات هيئة تحرير الشام ومضايقتها للصحفيين في إدلب، وقالت صابرين النوري، مسؤولة مكتب الشرق الأوسط في مراسلون بلا حدود: “إننا ندين التهديدات المستمرة التي يوجهها جهاديو تحرير الشام للصحفيين، الذين لا يقومون سوى ما يمليه عليهم واجبهم المهني من خلال الإخبار عن استياء سكان منطقة إدلب”، ويُذكر أن سوريا تحتل المرتبة 174 (من أصل 180 بلداً) على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي نشرته مراسلون بلا حدود في وقت سابق عام 2019.
تم إنتاج هذه القصة الصحفية بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان الكندية (JHR)، وصندوق الأمم المتحدة للديمقراطية ( UNDEF).