تتزامن الذكرى السابعة لبدء الثورة السورية مع صعود نجم البراجماتية السياسية على مستوى العالم برمته وبشكل لم يحدث في التاريخ، ومع انهيارات أخلاقية عميقة وتصدع كامل في قيم العدالة والإنسانية، وزوال مفهوم المجتمع الدولي وحقوق الإنسان وكل الشعارات التي بنى عليها الغرب أسس تقدمه والتي أصبحت لا تختلف شيئاً عن شعارات حزب البعث.
لربما يعد ذلك إجابة استباقية عن سؤال يحير السوريين الذين لا يزالون يشتعلون حماساً وتعصباً لثورتهم: لماذا لا تلقى دعوات التظاهر ضد الأسد وحلفائه استجابة واسعة عند السوريين المقيمين في دول أوروبا المختلفة؟
في العام ٢٠١١، اجتمعت أسباب كثيرة للثورة على نظام العصابة الحاكمة في دمشق، وكانت فرصة إصلاح النظام السياسي -رغم ضآلتها- لا تزال قائمة، ولكن طريقة تعامل العصابة مع فكرة الثورة ومع المشاركين فيها أنهت كل إمكانيات الإصلاح أو التصالح مع العصابة، بل ازدادت الأسباب لاستمرار الثورة بما لا يقاس عن زمن بدئها وعن أسبابها القديمة، فبينما ثار السوريون ضد الفساد والقمع والأحادية والتوريث، فقد وضعهم نظام العصابة أمام أسباب جديدة للثورة أبعد وأعمق بكثير من أسبابها القديمة، لقد أعلن بشار الأسد نفسه عدواً لسورية وللسوريين، وصديقاً لقوى الاحتلال، وهل ثمة سبب أكبر من ذلك لرفض الأسد والحثالات التي تؤيده؟
ومع ذلك كله فإن ضعف مشاركة السوريين في المظاهرات التي تخرج في أوروبا بات ظاهرة لا يمكن أن تخطئها العين، ولا يمكن إنكارها، ولربما كانت إحدى الخطايا الكبرى للشعب السوري المتواجد في الخارج، فكيف يمكن لمئات آلاف السوريين أن يتأخروا عن التظاهر في الوقت الذي تدمر فيه بلدهم وتقسم وتدخلها كل أنواع الاحتلالات، كيف يمكنهم السكوت عن آلة التوحش التي تذبح أخوتهم في الداخل وتحرق مدنهم واحدة تلو الأخرى، فلا يشاركون حتى ببعض وقتهم للانضمام إلى المظاهرات التي تطالب بإيقاف المذبحة، ومحاسبة مجرمي الحرب، ومحاولة إنقاذ بلدهم.
وإذا ما أخذنا بعين النظر أن تلك المظاهرات التي تقام في المدن الأوروبية المختلفة، تحاط بالأمان الكامل حيث لا مخابرات للأسد ولا شبيحة مسلحين وجاهزين لإطلاق النار على المتظاهرين، لا براميل متفجرة تهدد حياة المشتركين، ولا احتمال للاعتقال، فإن دهشة السؤال ستتسع، ولا سيما وأن الكثير من السوريين المقيمين في أوروبا هم ممن شاركوا في المظاهرات في الداخل السوري رغم شدة خطورتها.
عشرات الأشخاص، قد يصلون إلى بضعة مئات في أحسن الأحوال، هم من يشاركون في تلك المظاهرات، وهذه الأعداد لا تستوقف أحداً في الشارع الأوروبي ولا تستطيع لفت النظر إلى حقيقة المأساة السورية، بل ربما استطاعت إعطاء تصور مضر بالسوريين وقضيتهم من خلال أعداد المشاركين القليلة والتي يمكن أن تثبت للرأي العام الأوروبي أن الأغلبية من الشعب السوري ليست ضد الأسد، ولربما نقلت صورة أخطر وهي أن المظاهرات الحاشدة التي قامت في سورية كانت بالفعل مجرد ماكيتات على القنوات الفضائية “المضللة”، فكيف يمكن للسوري أن يشارك في مظاهرات الداخل التي يمكن أن تكلفه حياته، ويمتنع عن المشاركة في مظاهرات آمنة! ألا يعطي ذلك مصداقية لرواية الأسد القديمة، وروايته الجديدة عن كذب الادعاءات فيما يتعلق بالغوطة تحديداً؟
ولربما لو خطرت هذه الفكرة لأبواق النظام لاستثمروها أبشع استثمار للتدليل على أن رافضي الأسد ما هم إلا مجموعات صغيرة لا يمكن أن تكون صالحة لقياس مدى الرفض الشعبي للأسد، ولربما وجدوا فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه منذ البداية، وهو أن الغالبية العظمى من السوريين هي مع الأسد، بدليل مناخ الحرية المفتوح في دول اللجوء للتعبير عن الرأي الصريح والفعلي.
في الواقع، ثمة أسباب عديدة وعميقة أيضاً لتخلف الكثير من السوريين عن المشاركة في تلك المظاهرات، وهي أسباب تدين المجتمع الدولي نفسه قبل أن تدين السوريين، وعلى رأسها فقدان السوري لأي أمل في استجابة المجتمع الدولي لصرخاته بعد أن تم امتحان هذا المجتمع بشلال دماء لم يتوقف حتى اليوم وعلى مدار سبع سنوات متتابعة، كل الدمار وكل الضحايا وكل الأشلاء، كل البراميل والصواريخ، كل الكيماوي والمجازر الجماعية التي توثق بالصوت والصورة، لم تدفع بالمجتمع الدولي لاتخاذ قرار ضد الأسد، فما الذي ستضيفه المظاهرات؟ كل الحقائق باتت واضحة للقوى الكبرى ولكنها لا تريد أن تفعل شيئاً، بل على العكس تماماً، فهي تحاول بكل السبل إعادة تدوير الأسد واعتباره حليفاً أساسياً في محاربة العدو المشرك “الإرهاب” كما تعتقد، فما الذي سيحفز السوري اللاجئ للتضحية بجزء من الوقت وبتكلفة مصاريف الذهاب والعودة، وهو يعلم النتيجة مسبقاً، وهي أن أحداً لن يستمع إليه ولن يشعر به مهما علت صرخاته واحتجاجاته!
لقد وصل الأمر عند الكثير من السوريين إلى مرحلة متقدمة من الخوف، وذلك عامل في منتهى الأهمية، فلقد اقتنعت الغالبية -بفضل مواقف المجتمع الدولي- بأن بقاء الأسد أصبح أمراً لا يقبل التشكيك بدليل كل المعطيات السياسية التي بات السوري قادراً على فك شيفراتها بسهولة، وعادت المخاوف لتطارهم بشأن بقايا أهلهم الموجودين في الداخل، فضلاً عن إمكانية إعادة اللاجئين إلى سورية بالقوة حال انتهاء “الحرب”، ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع ذات النظام المتوحش، وكل ذلك إنما يشكل إدانة إنسانية وأخلاقية للنظام الدولي الذي ساهم مساهمة فعالة في إعادة إعمار جدار الخوف في قلوب السوريين بعد أن قاموا بتدميره منذ سبع سنوات، فضلاً عن حماية المجتمع الدولي الصريحة للديكتاتوريات ومجرمي الحرب، وبهذا يكون الخوف من الأسد حتى في أوروبا مبرراً طالما بقي المجتمع الدولي ظهراً متيناً لحماية الجريمة.
لقد بات السؤال الجوهري الذي يطرحه السوري حينما تتم دعوته للتظاهر: وما الجدوى؟ وهو سؤال يلخص بدقة حالة الإحباط العميقة لديه والتي يتحمل مسؤوليتها أيضاً المجتمع الدولي ذاته.
غير أن على السوريين أن يجعلوا من الشعوب الأوروبية وليس الحكومات هدفهم، فلقد عملت الحكومات على تغييب شعوبها وتلقينهم الحقائق التي تخدم المصالح البراغماتية ولم يعودوا يكترثون للبعد الإنساني، إلا أن حدثاً كالحدث السوري، سيجعل الشعوب الأوروبية تنتفض ضد موقف حكامها فيما لو تسنى لها معرفة الحقائق بدقة، وذلك لن يتم إلاّ عبر السوريين المتواجدين في أوروبا، ولعل المظاهرات الحاشدة إحدى أكثر الوسائل فعالية لنقل تلك الحقائق وإعادة قضية السوريين إلى واجهة الحدث العالمي من جديد..