يغريني اللون الأحمر على سطح منزل جارتي “منى” في مدينة إدلب بالقرب مني، وقد ملأته حبات الفليفلة الحمراء، بعد أن غُسلت بعناية ونُزعت منها البذور وتربعت تحت الشمس يوماً كاملاً أو أكثر حسب حرارة الطقس، حتى تجف لحد معين وتصبح جاهزة للفرم على الماكينة، ثم خلطها مع باقي المكونات الأخرى في رحلة تحضيرها إلى المرطبان الزجاجي حيث تصبح “مكدوساً” كل هذه التفاصيل جعلتني أفكر ثانية في عدم التخلي عن تحضير مونة المكدوس لهذا العام.
تعتبر مونة المكدوس من أشهر أصناف المونة لدى أغلب العائلات السورية، وتستحوذ على قلوب الكثيرين بطعمها المميز ولاسيما مع كأس شاي ساخن بجانب المدفأة في أيام الشتاء الباردة.
منذ أن انتصف شهر آب، بدأت جارتي “منى” بتحضير كميات قليلة من المكدوس، وفي كل مرة كانت تصنع عشر كيلو من الباذنجان، كلما أنهت كمية ووضعتها في أوعية مخصصة لحفظها وهي “مرطبانات المونة”، استعدت لصنع كمية أخرى، إلى أن أنهت صنع خمسين كيلو من الباذنجان وثلاثين كيلو من الفليفلة الحمراء.
أخبرتني “منى” أنها كانت في مدينتها كفرنبل جنوب إدلب لا تكتفِ بصنع مئة كيلو من الباذنجان إلى جانب خمسين كيلو آخر من دبس الفليفلة الحار، تصنعهم مرة واحدة بمشاركة عائلتها وجيران الحي الذين يجدون في موسم المونة فرصةً لا تعوض لجلسات نسائية بامتياز يتشاركن فيها العمل والحكايا الممتعة.
غير أن ارتفاع أسعار الباذنجان والفليفلة هذا العام جعل “منى” وعدد كبير من النسوة، يقللن الكميات اللاتي اعتدن تحضرها من قبل في بيوتهن قبل النزوح والتهجير، لتقتصر مونتهم منذ سنوات على كميات قليلة، حرصاً منهن على وجود أصناف متنوعة في موائد الشتاء تخفف عنهم عبأه وقساوته، مع الاستغناء عن قسم كبير من باقي المواد التي تمون صيفاً، فلم يعد بإمكانهن صنعه بسبب تغير الظروف المعيشة.
ساعدت “منى” خلال صنعها المكدوس وفي كل مرة كانت تسألني هل سأصنع المكدوس هذا العام أم لا، وقد شارف موسم المونة على الانتهاء.
أما أنا فقد عَدلت عن صنع المكدوس وغيرتُ حساباتي بعد ارتفاع أسعار المواد المكونة له حوالي الضعف عن العام الماضي، ولاسيما مع منع إدخال الخضار من عفرين إلى إدلب، وكذلك اقتراب موعد افتتاح المدارس والتجهيز لها، ففضلت الاستغناء عن طبق المكدوس المفضل لدى عائلتي على حساب حاجات أخرى أشد ضرراً بالنسبة لنا.
لم أكن وحدي من ألغى المكدوس من قائمة حساباته، فأثناء حديثي مع باقي جاراتي وهن من مختلف المناطق السورية اكتشفت أن أغلبهن ليس بمقدورهن صنع المونة لهذا الموسم، بل يعتمدن على شراء حاجاتهن أول بأول وحسب مقدرة كل واحدة.
وصل ثمن كيلو الباذنجان الجيد إلى 2 ليرة تركي، والفليفلة 3 – 4 ليرات وكيلو الجوز البلدي 60 وليتر زيت الزيتون الأصلي حوالي 20 ليرة ناهيك عن الثوم والغاز لسلق الباذنجان، بحسبة بسيطة نعرف أننا لصنع عشرة كيلو مكدوس نحتاج حوالي 90 ليرة أو أكثر، وهو مبلغ مكلف جداً ولكمية بسيطة، بالنسبة لكثير من العوائل ذات الدخل المحدود في الشمال السوري.
ومع ذلك ساهمت في صنع المكدوس مع منى دون أن أحرم نفسي متعة المشاركة في التحضير، تبادلنا خبراتنا المتوارثة من أمهاتنا وجداتنا في صنع المونة، واتفقنا على طريقة موحدة لصنع المكدوس رغم أننا من منطقتين مختلفتين.
يسلق الباذنجان أولاً إلى أن ينضج ثم يملح ويوضع في صندوق مثقوب أو وعاء بواسطة شيء ثقيل جيداً حتى يخرج الماء منه ويصبح جافاً تماماً، أثناء هذه المرحلة تكون حبات الفليفلة قد جفت أيضاً، ثم تخلط بعد فرمها مع الجوز والثوم ويحشى بها الباذنجان وأخيراً يضاف إليهم الزيت.
تتم هذه العملية على مراحل عدة تستغرق ثلاثة أو أربعة أيام حسب الطريقة المتبعة إلى أن توضع في المرطبانات، وتصطف على رفوف المطبخ بانتظار موعد فتحها وتناولها.
وضعت “منى” أواني الزجاج الممتلئة بالمكدوس جانب بعضها البعض وتحت كل إناءٍ صحن كي لا يفيض الزيت على الأرض، أخبرتني “منى” أن هذه التفاصيل المهمة لا يمكن الاستغناء عنها في رحلة صناعة المكدوس وهي ركن أساسي لنجاحها.
لا أنكر أن منظر حبات الباذنجان الرقيقة، والمحشية بالفلفل الأحمر الشهي مع حبات الجوز الأشقر جعلني أعيد النظر في استغنائي عن المكدوس و حرضتني على صنع القليل منه.