لم تجلب الحرب في سوريا الدمار والخراب وهجرة آلاف الأسر فقط، بل تعدتها لتحل لعنة الحرب على القاصرات السوريات اللاتي اصطدمنا بحياة لا رحمة منها ولا ملجأ، فأصبح زواجهن المبكر غطاء وملاذ لأسرهم للتخفيف عن كاهلهم.
ففي حين أن الزواج كان يتصدر هرم الأعراف والعادات والتقاليد المصانة اجتماعياً في مدينة ديرالزور، إلا أن ظروف الحرب القاهرة دفعت الكثير من العائلات لتزويج بناتهن بزواج كان يكُتفى أكثر الأحيان بإشهاره دون تثبيته في المحاكم الشرعية أو القبول بشروط مجحفة بحق بناتهن للهروب من ظروف اقتصادية في الظاهر واجتماعية في الباطن.
يعتبر الزواج المبكر في ديرالزور ظاهرة قديمة متأصلة بالعادات والتقاليد، ولكن بسبب الأزمات التي نشهدها حاليًا زادت نسبته كثيرًا، حيث بدأت هذه الظاهرة بالانتشار عام 2015 بعد انقسام مدينة ديرالزور لمناطق خاضعة لسيطرة قوات النظام وأخرى تحت سيطرة الفصائل المعارضة ومن ثم سيطرة تنظيم الدولة “داعش”، وتصاعد الصراع وتردي الوضع الاقتصادي والحصار المطبق على البلد وغياب التعليم وجميع مقومات الحياة، مما دفع بعض الأهالي بالبحث عن حلول للخروج من دائرة الموت هذه، ولم يكن هنالك خيار آخر سوى تزويج البنات لعناصر من النظام أو المهاجرين من الدواعش رغم الاستهجان المجتمعي لهذه الحالات، لكنهم لم يجدو سبيل سوى ذلك.
في أحياء الجورة والقصور الواقعة تحت سيطرة النظام آنذاك استغل عناصر النظام الحصار المطبق على أهالي وعوزهم الشديد لأدنى مقومات الحياة وخصوصاً العوائل التي فقدت معيلها، أما داعش فقد اتجهت إلى فرض تعاليم دينية تحت دعوى “مكافحة الفساد الأخلاقي”، لتثبت للمجتمع السوري المحافظ أن هدفها إصلاح ما أفسده النظام السوري، وفي مناطق المعارضة أيضاً ظهرت دعوات لتزويج الشباب بعمر مبكر، في حال طلبوا ذلك، تجنبًا لدخولهم في علاقات غير شرعية.
لم يستهجن المجتمع المحلي فكرة التزويج حينئذ، وإنما رفُض التزويج من شخص غير معروف عنه أي شيء ولا من أي منطقة ينحدر، بالإضافة إلى النفور المجتمعي من عناصر النظام والدواعش لما رأوه من استغلال ومتاجرة وتصرفات غير أخلاقية.
قسم كبير من الأهالي والبنات اضطر للتماشي مع ذلك خوفاً من العنوسة وللتخفيف من ضغوطات الحياة، ومنهن أيضاً من فرض عليها الزواج بالتهديد باعتقال والدها وأخواتها الشباب ومنعهم من مغادرة المنطقة.
بحسب الناشطة “ناريمان. ب”، بدأت هذه الظاهرة بحالات فردية في السنوات الأولى لكنها أخذت تزداد واستمرت للآن، ولو بنسبة أقل حتى بعد انتهاء الحصار، واستعادة النظام سيطرته على كامل المدينة، بحكم الظروف المعيشية المتدنية فما زالت مستمرة حتى هذا الوقت.
إحدى الضحايا لا زالت تكافح لرعاية طفلتها بعد مقتل زوجها
“مريم. م” من مدينة ديرالزور، أجبرت على الزواج في عمر ال 15 عاماً، من أحد معارف والدها (30عاماً) والذي كان يعمل لصالح تنظيم “داعش” في مدينة الرقة، قالت لـ SY24: “رغم إنني الزوجة الثانية له إلا إنني وافقت على الزواج منه لمساعدة والدي في المعيشة وليأمن خروجنا من البلد دون مساءلة من أحد ، تمّ عقد قراننا عام 2017 بواسطة أحد رجال الدين وبعض الشهود، دون تثبيته في المحاكم الموجودة في مناطق سيطرة النظام، لكن وبعد مضي 7 أشهر على زواجنا قُتل زوجي نتيجة العمليات العسكرية، وكنت حامل حينها، اضطررت لمغادرة المنزل مع عائلتي والاستقرار في إحدى القرى بعد استعادة النظام سيطرته على المدينة، توفي والدي بعد أقل من شهرين من نزوحنا لأجد نفسي عرضة لظروف معيشة صعبة، أنا الآن مازالت أحاول أن أتدبر أمور معيشتي مع طفلتي بعد مقتل زوجي ووفاة والدي، فقد أصبحت مسؤولة أيضاً عن أخواتي”.
وأكدت أنها لم تستطيع حتى الآن الحصول على وثائق رسمية لتقيد ابنتها في النفوس، بسبب عدم وجود أي ثبوتيات لزوجها.
التبعات القانونية والسلبية للظاهرة
وأوضح المحامي ” مرهف. س.ع ” المقيم في مدينة دير الزور لمنصة SY24، بأنه “لم تتعارض نصوص القانون السوري مع ما ينص عليه الدين الإسلامي فيما يخص زواج القاصرات، خاصة أن قانون الأحوال الشخصية في سوريا يستند في موضوع الزواج تحديدًا، إلى نصوص شرعية مستمدة من القرآن الكريم والسنة رغم التعديل الذي أصدره النظام عام 2018 والذي يقتضي بعدم التزويج حتى إتمام 18عام إلا أن معظم الأهالي لا يلتفتون لمثل هذه القرارات وخاصة في المناطق الريفية والتي يغلب عليها الطابع العشائري، كما أن التعديل الذي أجره النظام لا يُزيل الغطاء القانوني عن تزويج الفتيات القاصرات، لأن القاضي الشرعي يمكنه أن يزوج الفتاة أو الفتى في سن أصغر من 18 عامًا، في حال رأى فيهما أهلية للزواج، وذلك بحسب المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية والتي تقول: إذا ادعى المراهق أو المراهقة البلوغ بعد إكمال الخامسة عشرة وطلبا الزواج، يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسديهمها، ومعرفتهم بالحقوق الزوجية“.
وأضاف أن من “أبرز التبعيات السلبية التي يخلفها الزواج المبكر في سوريا في هذه الظروف هو عدم تثبيت هذه الزيجات في السجلات الرسمية التابعة للنظام وهذا ما يؤدي إلى عواقب وخيمة بحق الزوجة والأطفال لعدم تمكنهم من الحصول على حقوقهم في النسب والميراث وشهادات الميلاد، مما يؤدي إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم في العيش والتعلم وينشأ جيل مكتوم القيد”.
ورغم كل ما تم ذكره، فإنه يجب لفت الانتباه إلى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على محافظة دير الزور أو المنطقة الشرقية خصوصًا، بل تمتد لتشمل عدد كبير من المناطق في عموم سوريا.
تجدر الإشارة، إلى أن الظاهرة تنتشر أيضا في المناطق الموالية للنظام السوري وبشكل خاص المناطق الساحلية وأريافها، والتي تنتشر فيها ظواهر اجتماعية سلبية عديدة، إضافة إلى ظواهر أمنية تحتاج للوقوف عندها وتسليط الضوء عليها.
كما أن هذه الظاهرة، انتشرت في الكثير من المخيمات وبشهادة العديد من المصادر، سواء في مخيمات النزوح داخل سوريا، أو حتى مخيمات اللجوء وبشكل ملحوظ في الأردن، وقد أكدت ذلك مصادر عدة لمنصة SY24.