لا يزال المدنيين في سوريا هم الهدف الأول للأعمال العدائية، إذ يشكلون النسبة الأكبر من الضحايا ويدفعون وحدهم ثمن هذا العنف، في حين تؤثر الممارسات القمعية والعنف المسلح بشكل مجحف على النساء اللواتي يخسرن بشكل مضطرد أمنهن وبيوتهن وحياتهن، وتبدو حياة المرأة داخل سوريا وكأنها سباق بين الموت وتأمين لقمة العيش لأطفالها وأداء الفروض الواجبة عليها، بهذا التعبير وصفت “أماني” حال المرأة السورية الآن.
التذمر والغبطة .. روتين صباحي
تقول “أماني”: “أعيش مع زوجي في منزلنا المُلك الذي لو لم يكن موجودًا لكانت حالتنا يرثى لها، فدخل زوجي الذي يعمل عامل في أحد معامل الحلويات وسط منطقة الجورة الواقعة تحت سيطرة النظام، 50 ألف ليرة سورية، وهو ما يؤمّن لنا بالكاد ربطة خبزة يومية، ومصروف أمبيرات تغطي بعض من غياب الكهرباء، ورصيداً لهاتفه المحمول مع استغنائي عن حمل هذه التقنية وعددًا من مستلزمات المطبخ الأساسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، أمّا الجبن و حليب الأطفال فقد أصبحنا نعتبره من رفاهية الحياة”.
وتضيف “أماني”: “أثناء جلساتي الصباحية مع جاراتي أصبحنا نتداول أطراف الحديث حول طرق الاقتصاد المنزلي وما يمكننا فعله لتدبر مصاريفنا، وجميعنا يتكلم عن ارتفاع الأسعار وتدهور الليرة السورية مقابل الدولار رغم إننا لا نتعامل به، الأمر الذي أُجبر السوريين اليوم على تحمل أعباء اقتصادية إضافية قد لا يقوى عليها البعض، فمنتجات كالخبز والطحين وحليب الأطفال تضاعفت أسعارها، فيما أصبحت الفاكهة واللحوم (رفاهية زائدة)”.
“(نشعر بالضيق).. جملة أصبحت تتردد على مسمع ولسان حال الكثيرين، هذا كل ما أستطيع قوله عن حياتي اليومية في سوريا الوضع أصبح لا يطاق وبات كل ما يشغل تفكيرنا هو تأمين لقمة العيش حرفيا”، هكذا بدأت “نور” حديثها في لقاء خاص مع منصة SY24.
وتقول “نور”: “أعمل موظفة في مؤسسة حكومية تابعة للنظام السوري، لم نعد نستطيع بدء صباحنا دون حالة التذمر المصاحبة لغالبيتنا، أصبحنا نعتبرها بمثابة التوقيع على سجلات الحضور، فالتوقّف عن التذمر بحياة السوريين أمرٌ غير وارد على الإطلاق ليس محبة به، بل لأنَّ الواقع الذي يعيشونه منذ سنوات طويلة لم يتغير بشكل جذري، إلاَّ أنهم كانوا يخترعون ظروف للتأقلم معه ليستمروا بممارسة طقوس صمودهم وتصديهم التي نشأوا واعتادوا عليها”.
وتضيف أنه “مع ارتفاع الأسعار وهبوط الليرة يبقى العامل المستقر الوحيد في تلك المعادلة هو راتبي الثابت، الذي إذا ما ارتفع بقرار رسمي يندر صدوره، فلا تتجاوز الزيادة 5 آلاف ليرة سورية”.
وتضحك ساخرة أي “يزيد الراتب بمعدل سعر كيلو واحد من الجبن أو اللبنة فأنا لا استطيع وضع الصنفين على المائدة خلال نفس الشهر”.
حديثٌ صباحي لا يخلو من الاكتئاب والغبطة، يبدأ عند تلاقيهم في المؤسسات الحكومية التي يعملون بها، الكهرباء وغلاء الأسعار هما الأساس بذلك الحديث، ومنه يتفرعون بمواضيع أخرى ذات صلة بهما.
“سمية” موظفة في عقدها الثالث من العمر، تقول: “تأقلمنا مع أصعب الظروف حتى إننا أصبحنا أفضل من منبه (بيغ بين)، الوضع السيء لتقنين الكهرباء والذي لا يستقر عموماً إلاَّ بوقت متأخر من الليل، يضطرني للسهر حتى انتهي من طبخ وجبة غداء اليوم التالي، تأقلمنا مع أنواع من الأطعمة لم نعتد على تناولها سابقا، لا أقصد أنه بإمكاننا تناول ما نريد من طعام، أصبحنا نأكل اللحم مرة في الشهر بأحسن الأحوال، لقد اعتدنا على ذلك في الأعوام الأخيرة، وتخلّينا عن الكثير من الأطباق الشهية المكلفة واستعضنا عن اللحوم والدجاج بإضافة البهارات أو وضع كمية قليلة جدا من اللحم أثناء الطهي فقط لإعطاء النكهة، هكذا نتدبر معيشتنا”.
وزادت قائلة: “يعيش السكان في الداخل السوري يوماً بيوم، ولا يمتلكون شيئاً من الرفاهية”.
امتلاك الأصول الثابتة لم يعد يساوي شيئا!
في سياق آخر ترى المحللة الاقتصادية “تولين”، أن التأقلم والتكيف مع الوضع الاقتصادي المتدهور يزداد تعقيداً، فمعظم السوريين الموجودين داخل سوريا يمتلكون الأصول ولا يمتلكون النقد، فمن الممكن امتلاك العائلات السورية لأراضي ومنازل ومحلات وخاصة في البلدات والقرى الريفية، لكن لا يمكن استثمارها لأن القدرة الشرائية والا ستثمارية شبه منعدمة”.
وأكدت “على وجود المنظمات الإنسانية العاملة بمجال دعم المزارعين، إلا أن هناك قيود وشروط تحد من عدم استفادة الجميع”، مضيفةً أن “ما يدخل للسوريين من الخارج من مساعدات وحوالات مالية أكثر من ميزانية الدولة نفسها”.
النداء الإنساني .. واجب يلبيه الأطباء بصدق
الغلاء الذي تشهده المدن السورية، كان له أثر مختلف على طبيبة الأسنان “وسام” ، فتفاوت الأسعار المرتبط بسعر تصريف الدولار يشكل عائقا أساسيا أمام متطلبات مهنتها.
تقول “وسام”: إن “المواد الطبية التي استخدمها أصبحت غالية الثمن، وأحياناً يتغير سعرها خلال اليوم الواحد، ونلاحظ مؤخراً العديد من عيادات الأسنان أغلقت أبوابها لعدم قدرتها على تحمل الخسائر، لكنني قررت الاستمرار في عملي لأساعد الناس رغم أنني أحياناً لا أستطيع حتى تغطية النفقات، لكن الواجب الإنساني يحتم علي ذلك”.
في سوريا طبقتان لا ثالث لهما …تلاشي المتوسطة
أما بالنسبة لـ “راما” التي تنقلت بسبب طبيعة عملها مع المنظمات الإغاثية بين عدد من المدن السورية خلال الأعوام السابقة، لتستقر مؤخراً في المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، تقول: إن “تدني الوضع المعيشي كان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعتني لمغادرة مدينتي، تمكنت أخيرا من السفر إلى القامشلي منذ حوالي 8 أشهر، الوضع كان جنونيا في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، كنا نعيش في دوامة ارتفاع الأسعار وخاصة إيجارات المنازل، دون حل يلوح في الأفق”.
وتؤكد الشابة “نعاني من الغلاء على مختلف الأصعدة في الحياة اليومية حتى إننا بدأنا نفقد غالبية المستلزمات الضرورية، والأمر بالغ الصعوبة خاصة بالنسبة للأمهات والأطفال”.
وفي ختام حديثها مع منصة SY24، ذكرت أنه “في الأزمات والحروب تنهار مجتمعات وتتغير التركيبات فيها لتولد جديدة وتنعدم أخرى، حيث باتت الفروقات الطبقية واضحة جداً، الطبقة المتوسطة توشك على أن تختفي، بل تتجه أكثر نحو الفقر، أما الطبقة الغنية نرى ضمنها مظاهر الاهتمام بالأمور السطحية بينما يعيش الآخرون فقر مدقع”.
مؤخرا، لم يعد يخفى على أحد حال المرأة في كافة المحافظات السورية ومخيمات النزوح واللجوء، والذي ارتبط بدراما الواقع السوداء، فبعد أن علت الأصوات مطالبة بحقوقها واعتبروها نصف المجتمع، باتت الآن لاهثة مشردة في طوابير متنوعه باحثة عن قوت أولادها.
وبحسب إحصائيات صادرة عن الأمم المتحدة، فإن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وخلال عام واحد فقط ارتفعت أسعار المواد الغذائية في سوريا بمعدل 107%، أي بمقدار 14 مرة أكثر من معدل ما قبل النزاع، وهذا أعلى ما يتم تسجيله على الإطلاق.