في سوريا وحدها تزدوج الشروخ والانتكاسات النفسية، مخلفة ورائها أزمة من نوع آخر، رغم مضي ما يزيد عن ثلاث سنوات على اندحار تنظيم “داعش” في سوريا، إلا أنهم خلفوا ورائهم موتاً وخراباً وشيئاً آخر، لم يكن يلتفت أحداً إليه كثيراً , خلفوا أطفالاً مع أمهاتهم وأقاربهم يواجهون مصيراً يقبض القلوب.
جيل بلا وثائق
الأطفال “مجهولي النسب” أو “أطفال الدواعش”، تعددت التسميات التي اختلف عليها المجتمع حول هؤلاء الأطفال، وجديدها وليس آخرها “مكتومي القيد والنسب”.
“كمية لا يمكن إحصائها من الأسماء المستعارة، وحدود مفتوحة أمام القاصي والداني، جعلت تعريف الهوية قضية ملحة تركت ورائها عشرات الأشخاص مجهولي النسب يزيدون عن آخرين موجودين أصلاً في سوريا”، هكذا بدأت حديثها الناشطة “سهير” الأخصائية في علم الاجتماع، وذلك في لقاء خاص لها مع منصة SY24.
تقول الناشطة: إن “أطفال كثر صُنفوا في خانة مجهولي الهوية لأسباب مختلفة، نشأت كواحدة من نتائج النزاع الممتد على مدار السنوات الماضية، تنوعت الأسباب التي عزف عنها آباء الأطفال المولودين في مناطق سيطرة المعارضة السورية، وفي بلدان اللجوء حول العالم، عن تسجيلهم في سجلات الأحوال المدنية التابعة للنظام السوري، منها أسباب سياسية وأمنية وأخرى اقتصادية أو اجتماعية”.
وتابعة قائلة: “مع بدء تحول الاحتجاجات الشعبية في سوريا إلى نزاع مسلح، دخل إلى البلاد مقاتلون أجانب من جنسيات مختلفة، وبأسماء حركية، دون الإعلان عن أسمائهم الحقيقية أو أنسابهم الكاملة (أبو هاجر الفرنسي , وأبو المهلب التونسي والمصري …)، يُعرفون باسم المقاتلين أو المهاجرين، تزوج العديد منهم من نساء سوريات في المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة، بعقود زواج غير رسمية وغير مقيدة قانونياً، حيث نتج عن ذلك أطفال غير مسجلين في بلدان آبائهم أو حتى أماكن ولادتهم، لعدم قدرة الأب على العودة إلى بلده أو لمقتله واختفائه، مخلفاً وراءه عدم معرفة النسب الحقيقي له وانعدام قدرة الوصول إلى عائلته”.
آثام متراكمة …..الآباء والمجتمع
بعيون حزينة تنظر “أم أحمد” لأطفالها الثلاثة وتروي لنا قصة زواجها، التي انتهت بتشريدها وأطفالها، ونبذهم من قبل المجتمع.
تقول السيدة: “كان زواجي ميسر، لم أواجه أي مصاعب مع زوجي رغم أنه مهاجر يحمل جنسية أخرى، كحال غالبية الزيجات خلال السنوات الماضية، قمتُ ووالدي بتقيد زواجي لدى القاضي الشرعي في الدولة الإسلامية، ظناً منا بأن الحال سيبقى على ما هو حينها، قلة الوعي التي لدي جعلتني أوافق أهلي على اتخاذ مثل هذا القرار، لينتهي بي الحال كمعظم النساء اللواتي فقدنَّ أزواجهن في معارك الباغوز الأخيرة، لأبقى بلا معيل ودون أي ثبوتيات رسمية لأولادي، ناهيك عن ذلك، فأنا لا أعرف الكثير عن عائلة زوجي غير أنه من أصل مغربي”.
وتضيف أنه “حين خروجي وأطفالي من مخيم الهول لم يخيل لي بأن الأمر سيبدو معقداً، أصبح عمر ابني الكبير سبع سنوات، وأنا غير قادرة على إرساله إلى المدرسة، لعدم امتلاكي الأوراق التي تثبت زواجي أو دفتر عائلة، أواجه نفس الصعوبة حين اضطر لمراجعة المركز الصحي كحالة إسعافية، عدم قدرتي على الحصول على المعونات لنفس السبب، إضافة عن النظرة الدونية لي من قبل المجتمع”.
أما الابن “أحمد” فيكمل الحديث متلعثماً، ويقول: “لا أرغب بالذهاب إلى المدرسة أو الخروج كثيراً من المنزل، الجيران وأولادهم يكنونني بأحمد الداعشي، أو ابن الدواعش”.
انعدام الثبوتيات يؤدي إلى …. الهوية
لم يقرر الأطفال مصيرهم بأن يكونوا هوامش مجتمعية، إنما فرضت عليهم، فباتت هذه الظاهرة واحدة من المشاكل الاجتماعية التي تؤرق الكثير من أهالي المجتمع السوري في ظل بقائهم دون قيود رسمية، نتيجة لعدم تسجيل معظم واقعات الزواج في المحاكم الشرعية أو النظامية، وبقائهم بلا نسب في الشرع والقانون.
وحول هذا السياق يقول المحامي “مرهف” في حديث خاص له مع SY24، إن “القانون السوري ينص أن الطفل الذي يولد لأم سورية وأب أجنبي، لا تنتقل إليه جنسية الأم السورية، ولا يحصل على حقوق ومميزات المواطن السوري، كما لا يعترف القانون بزواج السورية من أجنبي إلا ضمن شروط خاصة، أهمها موافقة وزارة الداخلية على الزواج وإظهار جميع الأوراق الثبوتية للزوج أمام القاضي في المحكمة، وفي حال غياب واقعة الزواج يجب على الأم في هذه الحالة تثبيت الزواج وجهالة النسب أمام القاضي الشرعي، لمنح الطفل الجنسية من جهة الأم حكماً، وذلك وفقاً للمادة الثالثة من القانون السوري الصادر عام 1967”.
ولفت المحامي إلى أن “هذا الامر صعب تطبيقه في الوقت الحالي، فمعظم الزيجات لم يتم تثبيتها بشكل رسمي، كما أنّ حكومة النظام تعتبر هؤلاء الأبناء هم لمقاتلين إرهابين”.
وتابع قائلاً: “رغم أن الظاهرة وليدة الحرب، إلا أنها مشابهة لسابقتها من مكتومي القيد سابقاً لدى النظام منذ ما يزيد عن 40 عاما، فلا يخفى على أحد حرمان النظام سابقاً وعدم منحه الجنسية لعدد كبير من الكرد والذين كانوا يُعدون من الأجانب في محافظة الحسكة”.
الجدير بالذكر بأنه ليست وحدها الزيجات من المقاتلين الأجانب من خلقت هذه الظاهرة في المجتمع السوري، إنما تواجه العديد من الأسر السورية تحديات ضخمة في هذا السياق، جراء فقدان الوثائق الثبوتية أو عدم قدرتهم على تسجيل جميع الواقعات التي طرأت على سجلهم المدني خلال النزوح والتهجير القسري وإغلاق دوائر السجلات المدنية، وخروج معظمها عن سيطرة النظام.
تشير الإحصائيات التي وثقت مؤخراً، إلى أن أكثر من 70 % من العوائل في سوريا أو في مخيمات النزوح، لا يمتلكون وثائق رسمية، كما أن أكثر 5 آلاف طفل ليس لديهم بيان ولادة رسمي، سوى ما صدر عن السلطات الحاكمة في كل منطقة على اختلاف أنواعها، والتي لا تعترف بها الدوائر الرسمية من قبل النظام، الأمر الذي تسبب بعدم حصولهم على الجنسية السورية، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الحياة.