يعيش السوريون ضحايا الاضطرابات النفسية نتيجة الحياة التي تطبق عليهم والتشرد الذي أرهق كاهلهم، فبعد سنوات قاسية من الحرب أصبحت حياة الأغلبية منهم محاصرة بالمخاطر والاضطرابات النفسية التي تعيق قدرتهم على العيش بشكل سليم، فالنزوح واللجوء والبطالة والعديد من الأسباب التي لا تقل سوءً عما سبق تحالفت مع بعضها، وازدحمت داخل صدورهم لتزيد معاناتهم في حياتهم اليومية.
وفي هذا الجانب، قالت الباحثة الاجتماعية “ديمة” في لقاء خاص لها مع منصة SY24، إن “الحرب المستمرة في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات، لم تترك أحداً من دون أثر بليغ في روحه أو جسده أو ماله، وقد يكون الموت أهون تلك الآثار، فضحايا الحرب ليسوا اولئك الذين سقطوا بين قتلى وجرحى أو انضموا إلى قوائم المشردين أو النازحين، بل أن هناك ضحايا آخرون ربما لم تتحدث عنهم الحرب حتى الآن وهم اولئك الذين صاروا مصابين بصدمات نفسية بالغة”.
وأضافت الباحثة أن “نحو مليون سوري يعانون من اضطرابات نفسية، في حين وصل عدد المصابين بأمراض نفسية حادة وخطيرة إلى أكثر من 400 ألف سوري، حيث يعرف الاضطراب النفسي بحسب علماء النفس بأنه نمط سيكولوجي أو سلوكي ينتج عن الشعور بالضيق أو العجز، وما أكثرها الأسباب التي تكالبت واجتمعت لتقود عشرات الآلاف من السوريين الى هذا الواقع المؤلم”.
وأشارت إلى أن “ما يقرب عن 45 % من المرضى الذين يراجعون العيادات النفسية، يعانون من حالات توتر شديدة واكتئاب بسبب الحرب وعدم معرفة ما سيجري في المستقبل، هذه الاضطرابات النفسية أدت إلى زيادة حوادث الانتحار سواءٌ في الداخل السوري أو في مخيمات اللجوء بنسبة 15 % عند مرضى الاكتئاب وكذلك مرضى الذهان، وبحسب الدراسات فإن نسبة حالات الانتحار بين اللاجئين في الخارج أكثر منها في الداخل وتزداد أكثر بين النساء”.
لم تفترس الحرب في سوريا الأجساد فقط، بل تعدتها لتبسط رعبها على قلوب وعقول السوريين من أطفال ونساء ورجال في بلد مزقته الحرب، فالصحة النفسية جزءٌ من الصحة العامة للإنسان وأي عارض يصيبها ينعكس سلباً على جسم الإنسان وحياته ومحيطه الاجتماعي.
“سالم المحمد” البالغ من العمر 27 عاماً، يقول: “أعاني منذ صغري من مشاكل عائلية جعلتني أعيش طفولة منعزلة ليزداد الوضع سوءاً بعد وفاة أقرب أصدقائي نتيجة القصف، إضافة إلى مشاهدتي الدماء والجثث في الشوارع، ماجعلني حبيساً للاضطرابات النفسية، ولا أنكر محاولاتي المتعددة للانتحار والتجني بالضرب على بعض من أقاربي، كثيراً ما أحاول الذهاب إلى مركز العلاج النفسي إلا إنني أتردد في الغالب، فالثقافة التي تربينا عليها تصوّر بأن الشخص الذي يلجأ إلى الطبيب النفسي هو شخص مجنون، فالمجتمع يضع وصمة العار على المرضى وذويهم”.
ومثله “أم محمد” 40 عاماً، لم تتمكن من السيطرة على حالتها النفسية بعد فقدها لزوجها الذي أصيب بطلق ناري، فبدأت تصاب بنوبات نفسية حادة وتعتدي بالضرب على صغارها، ما جعل أهلها يقومون باللجوء لمركز الرعاية الصحية من أجل معالجتها.
ويرجع بعض الباحثين حدوث الاضطرابات النفسية نتيجة انهيار قدرة الفرد على التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تشهدها البلاد في الآونة الأخيرة، من وجهة نظر الاختصاصية “سهى” فإنه “بمجرد شعور الإنسان بفقدان الاستقرار المادي يولد لديه عدم استقرار نفسي نتيجة لتردي الوضع المعيشي”، فالانتكاسات المتتالية التي تشهدها البلد ضاعفت من ازدياد معدل الأزمات النفسية.
تقول “أم إبراهيم” وهي نازحة في ريف ديرالزور الشرقي: “دخلت حالة من الاضطراب النفسي بسبب الأزمات المتتالية التي عايشتها خلال السنوات القليلة الماضي، فمن اعتقال زوجي إلى انفصالي عن وظيفتي والنزوح الذي تسبب بخسارة أولادي لدراستهم، إضافة إلى انتشار الشائعات الحالية مؤخراً، حيث يروج الجميع لتسوية أمنية مع النظام في هذه المناطق، وهذا ما أدخلني والكثير من أهالي المنطقة بحالة من الهلع والوسواس القهري، لم أعد أستطيع النوم من غير تناولي لبعض المهدئات بالرغم من إنني تركت تناولها منذ متابعتي للعلاج مع بعض الأخصائيين”.
وتعقيباً على ذلك يقول الاستشاري “جمال”، إن “ملايين السوريين يعانون من الشعور المستمر بالخسارة والحزن، ما أدى إلى ظهور اضطرابات في الصحة العقلية وأزمات نفسية – اجتماعية، نتيجة تزايد تجارب العنف المرتبطة بالنزاع والمخاوف المستمرة من عدم استقرار الوضع الأمني فسلامة العائلة تشكل ضغطاً نفسياً كبيراً لديهم، وغالبًا ما يبحث النازحون داخل سوريا واللاجئون خارجها عن الأخبار التي تشعرهم بالاطمئنان، لكنهم يعانون بالمقابل من المعلومات المشوشة وعدم اليقين الذي يتسبب بازدياد الضغوطات النفسية لديهم”.