لم تخلف الحرب في سوريا موتاً آنياً فقط، بل تخطتُه لتحمل في امتدادها موتاً متعدداً أحد أوجهِه مخلفاته من الأسلحة والتي تُعد العدو الخفي الذي يتربص بحياة الآلاف من السوريين ومستقبلهم، ويقف عائقاً في وجه عودة الحياة إلى طبيعتها.
المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام وتنظيم داعش سابقاً، تشهد وبشكل يومي انفجارات بسبب الألغام المنتشرة فيها، ما يوقع قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، فقد أشارت الأمم المتحدة إلى إن ملايين الأشخاص في سوريا مهددين بالتعرض لأذية المواد المتفجرة.
وفي هذا الصدد يقول الباحث “أحمد المردلي”: إن “الألغام والأجسام المتفجرة تعد من الملفات الشائكة المرتبطة بالحرب السورية المستمرة منذ العام 2011، تجاوز عدد الضحايا خلال شهر نوفمبر الماضي 30 مدنياً مسجلين، ناهيك عن الحوادث المتكررة من هذا النوع التي تشهدها المنطقة الشرقية بشكل شبه يومي”.
وأضاف في حديث خاص مع منصة SY24، أن “التفخيخ وزرع الألغام يعتبر من أبرز الاستراتيجيات التي يتبعها تنظيم داعش في حربه ضد خصومه وفي الأماكن التي يتحصن بها، فقد خلف في المدن التي كان يسيطر عليها قبل انسحابه آلاف الألغام والعبوات الناسفة، والتي زرع عددًا منها في منازل المدنيين والمرافق العامة والمراعي”، مشيراً في ذلك إلى بلدة الباغوز ونواحيها والتي تعتبر آخر معاقل التنظيم في سوريا.
خلال الأشهر القليلة الماضية، عادت مئات العائلات من مخيم “الهول” الذي تسيطر عليه “قسد”، إلى قراها في الريف الشرقي من دير الزور، إلا أن العودة مازالت محفوفة بالمخاطر والصعوبات، وهذا ما استدعى الكثير منهم للمكوث في مخيمات مجاورة بدل الاستقرار في منازلهم من جديد.
“ليتني لم أخرج من المخيم، أنا من دفع بابنه للموت” كلمات موجعة يرافقها دموع بدأ بها حديثه السيد “راشد الحمادة”، والد الطفل “رائد” أحد العائدين من المخيم الهول، يقول “أبو رائد”: منذ عدة أيام بترت يد ابني وتأثرت قدميه بإصابات بليغة أثناء لعبه في الجوار، فرغم مرور أكثر من عامين على تخلص الباغوز من تنظيم داعش، إلا إنه لا يزال هناك المئات من معالم التنظيم وآثاره الموجودة في المنطقة، وأبرزها الألغام التي تحصد بشكل دائم أرواح المدنيين”.
أما الطفل “رائد” فيقول: “لا أذكر من الحادثة إلا أنني تحديت البعض من الفتية على تحريكي للمقذوف من مكانه لأجد نفسي في المشفى عاجزا بيد واحدة ولا أستطيع الوقوف على أقدامي للآن”.
ويتابع الأب في حديثه، لا يزال أهالي بلدة الباغوز يخشون من الألغام المنتشرة بين الأراضي الزراعية وعلى أطراف البلدة وداخل بعض منازلها، ما يصَعب عودة الحياة إلى شكلها الطبيعي، مضيفاً بأن هناك أماكن في الباغوز ومحيطها لم يدخل إليها أحد حتى اللحظة بسبب الألغام، رغم الحملات التي يقوم بها الأهالي لنزعها.
وفي ظروف مشابهة لسابقتها تقول “أم حسن”، فقدتُ ابني منذ عدة أشهر فبينما كان الأطفال يلهون بالقذيفة انفجرت عليهم، وتابعت قائلة: “أعلم بأنه قُدر لطفلي أن يموت بها، إلا أن نقص المعدات الطبية والأدوية في المركز الصحي لم يُمكنّنا من إنقاذه، وتدني الوضع المعيشي وارتفاع التكاليف منعني من نقله إلى مشفى خاص”.
أما زوجها، فيرفع بنطاله الأسود ليظهر تحته الطرف الاصطناعي، ويقول: “بدأت بحراثة الأرض بعدما خرج الدواعش منها، وبينما كنت أقوم بتنظيفها انفجر بي لغم”، ويضيف الرجل بحسرة “منذ ذلك اليوم انقلبت حياة عائلتي كلياً”.
لا يكاد يمر أسبوع من دون تسجيل سقوط ضحايا في هذه المناطق، يذهب ضحيتها بشكل رئيسي الأطفال ورعاة الأغنام والمزارعين، حيث اكتفت “قسد” بعمليات البحث والتفجير لمخلفات الحرب التي تم العثور عليها مباشر بعد طرد “داعش” من مناطق سيطرته، ورغم توجيه المناشدات المتكررة من قبل أهالي المنطقة للجهات الحاكمة والتحالف الدولي مطالبين فيها بإيجاد حل لهذه المعضلة، إلا أن الاستجابة خجولة ولم تتخطى حاجز الوعود المرهونة بالمكان والضحايا.
وحول هذا، يقول السيد “أحمد المرسوم” أحد الناشطين في المجال الخدمي في بلدة الباغوز، رغم وجود عدد لا بأس به من المنظمات الخدمية في المنطقةً، إلا أننا مازلنا نواجه مأساة حقيقية بسبب الأمر، المخلفات لا تزال متناثرة بشكل عشوائي ويصعب على العيان تحديدها.
وأضاف بأنه “رغم صعوبة المهمة وعدم توفر الإمكانات اللازمة إلا أنه ومنذ عودة الأهالي إلى المنطقة تتم إزالتها بطرق بدائية منها حرق الأراضي والهروب بعيداً، أو شد المقذوفات المغروسة بالأرض بحبل يبلغ من الطول 100 متر في محاولة لنزعها من بعيد مختبئين خلف ساتر أو حائط، ويتم هذا العمل عن طريق بعض الفرق المتطوعة من الشباب”.
وزاد قائلاً: “الخطر المتواجد في المنطقة لا يقتصر على الألغام فقط، إلا أن المقابر الجماعية لا تزال موجودة للآن وتقدر بأكثر من 5آلاف جثة”.
وختم حديثه مشيراً إلى زيارة التي أجرها وفد من “قوات التحالف” للمنطقة بتاريخ 26 كانون الثاني، والتي تضمنت قرى السوسة وتل العفة والباغوز شرقي دير الزور، حيث تواصلوا من خلالها مع بعض الأعيان والوجهاء في المنطقة وطلبوا منهم تحديد مواقع تواجد مخلفات الحرب ليتم تفكيكها والبحث عن المخلفات المخفية من قبل كتيبة الهندسة العسكرية التابعة لقوات التحالف الدولي.