“لما بسمع قصص التعذيب الي صارت بالمعتقلات، بقول يارب ما يكون عايش…”، بهذه الكلمات المؤلمة عبرت السيدة “ميساء 44 عام” من ريف دمشق، عن حسرةٍ عمرها تسع سنوات منذ اعتقال زوجها “ماجد” في 17\8\2013، هذا التاريخ الذي يستعصي على النسيان من ذاكرة “ميساء” حسب قولها.
اعتقل “ماجد” من حاجز عسكري في منطقة العباسيين بدمشق أثناء عودته من عمله، تقول ميساء في حديثها إلينا: “كأنه كابوس أتمنى أن استيقظ منه يوماً ما، وأراه أمامي، لقد خرج صبيحة ذلك اليوم المشؤوم ولم يعد.. لم أترك فرعاً سياسياً أو عسكري إلا وسألت عنه، والجميع كان ينكر وجوده”.
اتبع النظام السوري أسلوب الاعتقال التعسفي بحق آلاف الرجال والنساء وحتى الأطفال في جميع المحافظات السورية التي خرجت ضده في 2011، عن طريق الاقتحامات المباشرة، أو الحواجز العسكرية التي قطعت أواصر البلاد وحولته إلى ثكنة عسكرية كبيرة للقتل والاعتقال والتعذيب.
“ماجد” كان واحداً من بين 130 ألف شخص اعتقلوا على يد النظام بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بينما قُتل 14537 شخصاً، بينهم 180 طفلاً، و92 امرأة تحت التعذيب في السجون منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 إلى حين صدور التقرير في حزيران 2021.
تعمل “ميساء” مدرسة لغة عربية في منطقة القابون بدمشق، استطاعت أن تعيل أسرتها وأن تكون أم وأب لأطفالها في غياب زوجها، خاصة أن لديها طفلاً من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويحتاج رعاية مضاعفة، فبدت كمرأة قوية صلبة، بعيون محيطها وأقاربها، لكن لا أحد يشعر بمدى القهر والألم الذي عاشته طيلة تلك الفترة.
تقول لنا: “كنت هشة جداً من الداخل، ودموعي تغرق وسادتي كل ليلة، والدعاء لزوجي لا يفارق لساني، ولكني مجبرة أن أبدو قوية صبورة أمامي أطفالي الأربعة وقد تجرعوا مرارة اليتم وأبوهم على قيد الحياة..!”.
آلاف النساء من زوجات وذوي المعتقلين عشن ظروفاً مشابهة لقصة ميساء، وكثير من الأمهات ماتوا قبل أن يعلمن شيئاً عن مصير أولادهن داخل قضبان السجون.
لم تترك “ميساء” وسيلة للبحث عن زوجها ومعرفة مكانه، ولكن كل محاولاتها باءت بالفشل.
في 2017 تعرضت للاستغلال المادي من قبل ضابط يعمل في المخابرات ادعى معرفة مكان زوجها، وبأي فرع موجود مقابل حصوله على خمسة ملايين ليرة سورية على دفعتين.
استطاعت تأمين نصف المبلغ، بعد بيع مصاغها الذهبي واستدانت قسم آخر من الأموال، ليخبرها أن زوجها في سجن صيدنايا، ونصحها بعدم السؤال عنه مرة أخرى لأنها بذلك تعرض نفسها للخطر.
تعيش “ميساء” ككثير من زوجات المعتقلين في دوامة من الشك والقلق حيال مصير ذويهم، هل هم على قيد الحياة؟؟.. هل يتحملون التعذيب الرهيب الذي يتكلم عنه الناجون من الاعتقال؟.. هل مازالوا يذكرون أهلهم وزوجاتهم وأولادهم؟.
أسئلة كثير معلقة بلا أجوبة تدور في رأس ذوي المعتقلين، تتوقف عند مجرد التفكير بأن هذا المعتقل قد مات وأرتاح من كل تلك العذابات..
لم تكن حال الشابة “تغريد 27 عام” من مدينة إدلب بأفضل من حال ميساء، ولاسيما أن زوجها اعتقل في منتصف 2011 بعد زواجهم بسنة واحدة فقط.
تقول “تغريد” في حديثها إلينا: “كنت في أشهر حملي الأولى، عندما اعتقل “حسام” من حاجز في مدينة حمص أثناء عودته من دمشق إلى إدلب، كان برفقة ثلاث من شبان بلدتنا، اعتقلوا جميعاً بعد تقرير ضدهم، كتبه زميلهم في العمل، أتهمهم بدعم الإرهاب وتصوير المظاهرات.
تكمل حديثها، :”بقينا على هذه الحال أنا وأهله وابنه الذي لم يراه، لا نعرف عنه شيء، هل هو على قيد الحياة؟.. أم قتل نتيجة التعذيب؟ إلى أن رأينا صوره من ضمن صور قيصر المسربة قبل عامين..”.
دموع تغريد أكملت كلامها رغم الصمت الذي ساد الحديث..
عاشت تغريد متنقلة بين بيت أهلها، وبيت أهل زوجها، فهي غير قادرة على إعالة نفسها وطفلها فقد تزوجت بعمر صغير ولم تكمل تعليمها لكي تكون تعتمد على نفسها، دون الحاجة إلى أحد حسب قولها.
كما أنها لم تسلم من شفقة المجتمع ونظرته إليها، فهي ماتزال شابة صغيرة وتتعرض لكثير من المضايقات من قبل محيطها تقول لنا: “كنت أعيش على أمل أن يرجع زوجي يوماً ما، انتظرته رغم إلحاح أهلي على الطلاق منه والزواج قبل أن أعنس حسب قولهم، لكني كنت أرفض هذه الأفكار، وأقتات على الصبر والدعاء إلا أن تأكدت من موته”.
أيام قاسية، فوضى من المشاعر والأحاسيس تعيشها النسوة بانتظار أزواجهن، يتجرعن مرارة الانتظار متقلبين بين “أمرين أحلاهم مرُّ”.. إما أن يكونوا قضوا تحت التعذيب وانتهت معاناتهم، أو أنهم مازالوا على قيد الحياة يقاسون أشد أنواع التعذيب والعنف.