“لا انترنت، لا معاهد للموسيقى ولا اهتمام بها في مدينتي الرقة، عندما قررت شق طريقي في الموسيقى، أردت الاعتماد على نفسي وتنمية موهبتي”.
هذا ما قاله “محمد الحمدلس 30 عاماً” شاب من مدينة الرقة، وأحد أبناء عشائرها، درس البيطرية كحال العشرات من أقرانه الشباب ذلك الوقت، كون المدينة تعتمد على الزراعة والثروة الحيوانية، لكنها لم تكن رغبته، وبقي حلمه في دراسة الموسيقى، دفيناً داخله لحين انتهائه من دراسة المعهد البيطري.
يقول لنا :”عدت بعد إنهاء الدراسة إلى تعلم الموسيقى، التي عشقتها وأبدعت فيها بعمر الثامنة، وخاصة آلة العود التي شغفتني حباً لدرجة كبيرة جداً”.
أنهى كلامه، وفي عينيه نظرات الحزن القديمة التي اعتصرت قلبه يوماً، حين حرم من دراسة الموسيقى التي أحبها، إلا أنه وبعد إبداعه في مدينة حمص، قرر العودة إلى الرقة، وتحقيق حلمه بإنشاء أول معهد لتعليم الموسيقى للشباب، قاصداً من ذلك تشجيع الشباب على الموسيقى لأنها حسب قوله “غذاء الروح والجسد”.
صدم “الحمدلس” بحقيقة الواقع المر، ولم يرَ حلمه النور في الرقة بسبب الحرب التي أكلت حلمه، وقرر العودة إلى حمص والعيش هناك، باحثاً عن أمله بالنجاح وتحقيق حلمه من جديد، وكان له ما أراد، حيث أبدع في تعلم الموسيقى وفتح أول معهدٍ خاص به لتعليم الموسيقى في مدينة حمص.
في لقاء مع منصة SY24 قال العازف “محمد الحمدلس” متحدثاً عن أهم مراحل نجاحه منذ أيام عزفه الأول، إن “انطلاقته الأولى مع الموسيقى كانت مجرد شغف وعشق دون أن يخضع لأي تدريب أو توجيه من مختصين بالموسيقى، إلى حين حصوله على العود والعزف عليه مباشرة”.
وتحدث أيضاً عن التحديات التي واجهت عودته إلى الرقة حيث لم تكن بالأمر السهل لموسيقي عازف في مدينة محتلة من قبل “تنظيم داعش” الذي يحرم ويكفّر كل من يستمع للموسيقى، فكيف سيكون مصير من ُيعلمها ويعزفها؟!
هذا السؤال كان كافياً لبقاء “الحمدلس” في حمص وإبعاد فكرة العودة الرقة مرة أخرى، فقرر البقاء في حمص إلى حين تحرير المدينة من التنظيم.
يقول واصفاً شعوره أثناء تحرير المدينة :”لا أستطيع وصف شعوري لحظة وصولي الرقة أول مرة بعد تحريرها، والعود على كتفي، وفي قلبي وعقلي أفكار ومخططات كثيرة لأبناء مدينتي عن الموسيقى”.
ثم ابتسم حينما أخبرنا أنه أوفى نذره الذي قطعه مع نفسه، وهو افتتاح أول معهد لتعليم الموسيقى في الرقة وتدريب الشباب والشابات والأطفال على آلة العود.
إلا أن هاجس توفير آلة العود ظل يؤرقه، فأسعار الآلات الموسيقية مرتفعة جداً، ناهيك عن صعوبة الحصول عليها، أجبرته على اللجوء إلى فكرة صناعة العود في المدينة، حيث تؤمن للراغبين بتعلم الموسيقى احتياجاتهم وبأسعار رمزية جداً، والأكثر من ذلك أنها صناعة محلية بحتة وبذلك تنتج المدينة أول “عود بأيدي رقاوية” منذ ما يقارب 2500 عام، دونما مبالغة حسب ما أخبرنا.
في منزله وبزاوية صغيرة بدأ “الحمدلس” تنفيذ فكرته، بإحضار أشجار الكينا من ضفاف الفرات، ثم بعد دراسة طويلة، لقياسات دوائر وزوايا العود، استمرت أشهر على الورق، بدأ بصناعة العود، وتشريح الجذع من الشجرة لشرائح، حارقاً إياها لتأخذ شكلها المدبب على صاج حديدي صنعه بنفسه.
فكان أول عود موسيقي محلي الصنع، “رقاويُ” المنبت والمنشأ وبأيدي واحد من أبناء المدينة، بدأت ألحانه العذبة تلامس قلوب أهل الرقة، بأنامل صانعه، الذي يرى أن إنجازه هذا لم يكن وليد الصدفة، وإنما نتيجة بحث وعمل وجهد مطول، أثمر صناعة عشرات الآلات منه، ملبياً رغبة العاشقين للموسيقى بامتلاكه والعزف عليه.
كما أبدع “الحمدلس” بالعزف على آلات أخرى منها الكمان، البزق والبيانو، لكن شغفه بالعود جعل منه أستاذاً يُشار إليه بالبنان، وقِبلةً لعشاق الموسيقى والألحان، بل تجاوز الأمر ليعمل على إصلاح الآلات الموسيقية التي تعرضت للكسر وإعادتها إلى حالتها الأولى.
نجح “الحمدلس” في تسليط الضوء على صناعة العود التي أصبحت في متناول اليد، ويتطلع إلى صناعة “الكمان” أيضاً في المستقبل القريب، ليكون أول “كمان” على مستوى سوريا سيتم تصنيعه في مدينة الرقة.