سألتُ صديقي ثائر: هل تذكر الحكاية التي أخبرتُك بها عن عضو مجلس الشعب “الشيخ محمد” الذي يجلس أثناء مناقشات المجلس على كرسيه المرتفع، ويشرد مفكراً في أحوال هذه الدنيا الفانية، ويُعْمِلُ يَدَه اليمنى في شاربيه تمسيداً وتفتيلاً وإفراداً إلى حين سماعه صوت رئيس المجلس وهو يقول (يا زملاء الآن تصويت) فيستيقظ من شروده، ويرفع يده ويقول: موافق؟
قال: نعم أذكرها.
قلت: برأيي أن هذه الحالة مستقرة، وبائسة.. ومن الناحية الفنية لا تصلح لشيء. ولكنها يمكن أن تتحول إلى دراما رفيعة المستوى لو شئنا ذلك.
قال: كيف؟
قلت: لنفرض أن الشيخ استيقظ مرة من شروده، ورفع يده وقال: غير موافق!
قال ثائر: هذا يشكل تحسناً طفيفاً في الحالة، ولكن، لعلمك، إن قرارات مجلس الشعب السوري تؤخذ بالأكثرية، فلو صَوَّتَ الشيخ محمد وبضعةُ أعضاء آخرون ضد القرار لن يؤثر ذلك على صدوره، وستبقى الحالة التي تقصدُها أنت مستقرة، وبائسة.
قلت: حلمك عليَّ قليلاً. لقد روى لي الصديق المحامي محمد صبرا حكاية نشرتها ضمن كتابي “كوميديا الاستبداد” عن ثروة حافظ الأسد التي بلغت عشرين ملياراً، وكان قد أودعها في البنوك السويسرية باسم ابنه “الباسل”، وحينما قتل الباسل سنة 1994 بحادث سيارة وقع الأسد في حيص بيص، لأن البنوك السويسرية لا تسلم الأموال لورثة المودع المتوفى إلا بموجب بيان وفاة، وحصر إرث قانوني، وبراءة ذمة موقعة ومصدقة من وزارة المالية.
هذا الأمر اصطدم بالقوانين السورية التي كانت تضع ضريبة تصاعدية على التركات تصل في بعض الأحيان إلى أربعين بالمائة، لذا أعطى حافظ الأسد أوامره إلى أعضاء مجلس الشعب بالموافقة على مشروع مرسوم تشريعي أعدته وزارة المالية نفسها يُعفي الأرصدةَ البنكية في المصارف من ضريبة التركات. الآن، لنفترض أن بطل حكايتنا “الشيخ محمد” صَوَّتَ على هذا القرار بالرفض.. ولكن، وبما أنه يبقى شارداً أثناء المناقشات، فهناك احتمال أنه لا يعلم أن حافظ الأسد هو الذي يريد لهذا القانون أن يصدر.
ضحك ثائر وقال: الحكاية من هنا بدأت تحلو.
قلت: ولا شك أن بعض الأعضاء سيهمسون في أذن الشيخ محمد أنْ انتبه، هذا المرسوم يهتم به الرئيس شخصياً. هنا سأفترض أنه قال لهم: حتى لو اهتم به الرئيس، هنا مجلس للشعب، وأعضاء مجلس الشعب تهمهم مصلحة الشعب في المقام الأول. فإذا قال له أحدهم بسلامة عقلك يا شيخ، شو شعب وما شعب؟ كأنك نسيت أننا في عرين الأسد ولسنا في سويسرا. ووقتها من المحتمل أن يركب الشيخ محمد رأسه، ويصر على رفض القرار، ورأسه، كما تعلم، جزمة عتيقة.
اعتباراً من هذه اللحظة الدرامية الخارقة، تبدأ التقارير بالانهمار على الفروع الأمنية والقصر الجمهوري، ومعظمها يقول إن الشيخ محمد لم يقف ضد إرادة السيد الرئيس حافظ الأسد نتيجة لجهل، أو سهو، وإنما على نحو مقصود، و(عينَكْ عينَكْ)! والقرار الذي كانت القيادة تتوقع أن يحصل على أصوات الأعضاء تامة، حصل عليها ناقصة واحداً.
بعد ثلاثة أيام فقط من تلك الواقعة المشؤومة، وبينما كان الشيخ محمد ساهراً مع بعض زملائه في البيت، إذ رن جرس الهاتف، وما إن رفع السماعة حتى طلعت له زوجته وأخبرته أن دورية من الشرطة حضرت إلى البيت برفقة مختار الضيعة، وحجزوا على محتويات البيت لصالح المصرف الزراعي لقاء 13 قسطاً متراكمة عليه منذ سنوات، وأنها تسلمت إنذاراً بالبريد من المؤسسة العامة للأقطان يتضمن ضرورة دفع ثمن بذار القطن الذي يعود إلى سنة 1978 وكانت المؤسسة نفسها قد صنفته ضمن الديون المعدومة.
وفي صباح اليوم التالي وصلت من القرية أخبار كئيبة، تقول إن أحمد ابن أخت الشيخ قد استدعي لشرب فنجان قهوة في الأمن العسكري، للتحقيق في تقارير تقول إنه قيادي في حزب العمل الشيوعي! كما استدعي صهر الشيخ، وهو ابن عمه “صالح”، إلى فرع الأمن الجوي بحلب بتهمة تشكيل تنظيم شيوعي راديكالي يخطط لقلب نظام الحكم في سورية.
قال ثائر: بالله أنك فتحت خطاً (درامياً/ كوميدياً) ممتازاً. ولكن، كيف ستكون القفلة برأيك؟
فكرت قليلاً ثم قلت: لا أعرف. أظن أن بإمكاننا أن نكشف الستار عن واحد من العشيرة نفسها يحاول جمع بعض أبناء العشيرة حوله، ثم يرشح نفسه لمشيخة العشيرة من جهة، ولعضوية مجلس الشعب من جهة أخرى، وأن يكتب على الصور التي سيعلقها على جدران المدن والقرى عبارة: انتخبوا مرشحكم فلاناً الذي لا يقول لا لمشروع يقف القائد وراءه، مهما تكن الظروف والملابسات!