أثقلت الأيام كاهل الطفل “عمار الشيخ” الذي وجد نفسه معيلاً لعائلته المكونة من أربع فتيات صغار، وأمه بعد ما خطفت الحرب والدهم، يقول :” كنت بين خيارين، التعليم أو العمل لكن ظروفي اختارت عني ولم أستطع حتى اتخاذ قرار نفسي”
أربعة عشر ربيعاً، كانت كافية لتحويل الطفل “عمار الشيخ”، إلى مسؤول عن أمه وشقيقاته الصغار، بعدما فقدوا والدهم، جراء ضربة جوية من التحالف الدولي إبان الحرب على مدينة الرقة.
يتحدث ابن الرابعة عشر عاماً وكأنه رجل ناضج بالخمسين من عمره، في لقائه مع مراسلنا، ناقلاً معاناته ونجاحه معاً، حاله حال عشرات الأطفال من أقرانه، الذين صقلتهم الحياة وجعلت منهم رجالاً قبل أن تخشن أيديهم وأصواتهم الناعمة.
يقول لنا: “كنت أحب الدراسة كثيراً، وأعشق المدرسة والكتب وملابس المدرسة النظيفة، كنت أحب صوت الضجيج في المدارس، لم أكن مشاغباً بل كنت أحب الحياة التي قست عليَّ كثيراً”
“عمار الشيخ” واحد من عشرات الأطفال في مدينة الرقة الذين أُجبروا على ترك مدارسهم خلال الحرب، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الحياة، بعدما أصبح أمام خيار العلم أو العمل.
يقول لنا: “كنت بين خيار البقاء في المدرسة على حساب حاجة العائلة وفقرها، وبين خيار إعالتهم رغم صغر سني”، لم يأخذ التفكير وقتاً طويلاً حتى وجد نفسه محاطاً بالأدوات الحديدية، وقد ترك الزيت والشحم أثراً على يديه الصغيرتين، بدلاً من الطباشير والأقلام.
في ورشة صغيرة لأحد أقارب والده وسط المدينة الصناعية في مدينة الرقة، عمل “عمار الشيخ” على إصلاح السيارات مختصاً بقسم “الهيدروليك” الذي أبدع فيه وأصبح اسمه “الصناعي الصغير” الذي كسب ثقة ومحبة الزبائن في وقت قياسي وأصبح المفضل لكثيرين ممن يبتغون إصلاح سياراتهم، لسمعته الممتازة وقدرته على الإبداع في العمل.
يقول لنا “لم استسلم ولن أفعل، لذا دأبت على التعلم في الصناعة والصبر على الكثير من العذاب والتعب لكني نجحت أخيراً ووضعت بصمتي في الصناعة”
وعن سؤال مراسلنا عن حلمه فيما لو أكمل دراسته، فأجاب بأنه كان يحلم أن يصبح مهندساً، رغم عدم تمييزه بين أقسام الهندسة الكثيرة، لكنه يحب الهندسة بشكل عام، كونها تعتمد على الابتكار والاختراع ولربما كانت الميكانيكية هي ما يبتغيه.
وفي شهادة “أحمد السيد” 35 عاماً، وهو صاحب محل التصليح بالقرب من المكان الذي يعمل فيه “عمار” في منطقة الصناعة، أخبرنا عن حادثة تنم عن ذكاء وفطنة الشاب الصغير، حيث اجتمع يوماً ثلاثة رجال من خيرة صناعيي الرقة لإصلاح هيدروليك سيارة حديثة، فلم يتمكنوا من إيجاد الخلل لإصلاحها، فتقدم “الصناعي الصغير” طالباً الإذن له بالمساعدة، فاستطاع إصلاح العطل بسرعة، فما كان منهم إلا أن حملوه على أكتافهم وجالوا به الصناعة كلها كتحية له وتقديراً لذكائه وإبداعه.
تغص المدينة الصناعية في الرقة بعشرات الأطفال كحال “عمار”، كأنهم فراخ من الجراد الأسود، ملونة وجوههم حسب اختصاص كل واحد فيهم بلون مختلف، فمن لون الدهان الأحمر المرشوش على وجوه أطفال الحدّادين، إلى سواد أطفال الميكانيك الغارقين حرفياً بالزيت المحروق، ولا يتوقف العمل عند قسوته عليهم بل تعداه إلى خطورته الشديدة أحياناً لدرجة تعرضهم للحرق أو الصعق أو الدهس.
فقد يعمل ما يقارب ربع “أطفال الصناعة” في أعمال خطرة عليهم كالحدادة ومناشيرها الكهربائية الكبيرة، وفي عمل البطاريات ومائها الحارق للجلد والجسد،
بحسب “محمود الهادي” مدير منظمة “صناع الأمل” الذي كان له دور في التوعية من مخاطر عمالة الأطفال عليهم، وتعليمهم حرف خفيفة عليهم كالعمل في كهرباء السيارات أو بيع المعدات الناعمة كالبراغي ونحوها، في حال كانوا متسربين من المدارس حال “عمار الشيخ”.
ختم “عمار” لقائه معنا بقوله: “أحببت عملي كثيراً وأحس بأنه أسهل علي من غيره، على الرغم من صعوبة العمل بشكل عام في الصناعة إلا أني أجد نفسي مرتاحاً بعد نجاحي فيه بشكل كبير”.
يحلم “الشيخ” اليوم بأن يفتتح محله الخاص قريباً لكنه بحاجة لبنية جسدية أقوى تساعده على ذلك، ثم إن صغر سنه ربما يسبب له عائقاً للذين لا يعرفون مهارته فيفضلون العمل عند من هم أكبر سناً منه وأقدم في الحرفة.