صبحية الواحد والعشرين من آذار، تجلس “أم فيصل” وحيدة في غرفتها، إلا من صور قديمة يحفظها هاتفها المحمول، تتنقل بين ألبوم من الصور، صنعته لابنها المعتقل “فيصل” منذ أصبح في عداد الموتى قبل تسع سنوات.
تسبق الدموع حديثها، لا كلام يصف حرقة قلوب أمهات المعتقلين والمعتقلات، تخبرنا أنها كل عام تتخيل ملامح ابنها “فيصل” الذي اعتقله النظام في 2012، وكان في 19 من عمره، أثناء عودته من الجامعة في دمشق.
مع كل صورة تشاهدها لابنها، تمطره بعبارات الدعاء والشوق والحب تقول لنا :”فيصل كان بِكري وفرحة عمري، ربيته كل شبر بنذر، وماصدقت صار شب، ودخل كلية الهندسة”، بهذه الكلمات العفوية الصادقة تتحسر والدته شوقاً لمعرفة مصيره، الذي قيل لها إنه في سجن صيدنايا منذ 2014 وانقطعت أخباره عنها منذ ذلك الحين، كحال مئات آلاف المعتقلين في سجون النظام مجهولي المصير.
تهجرت السيدة الخمسينية “أم فيصل” مع ثلاثة من أبنائها، قبل خمس سنوات من ريف دمشق، إلى مدينة إدلب في مثل هذه الأيام ضمن حملات التهجير التي قام بها النظام بحق المدنيين في كثير من المدن السورية إلى الشمال المحرر، لتصبح هذه البقعة الجغرافية الصغيرة منفى داخل الوطن، تجمع فيها أكثر من خمسة مليون شخص هجرهم النظام بعد قصف مدنهم وقتل واعتقال أبنائهم.
تقول “أم فيصل” في حديثها إلينا :”كان من المفترض أن يكون اليوم مهندساً، يعيش بيننا، لو لم يعتقله النظام مع عدد من رفاقه بسبب مشاركتهم في مظاهرات قامت ضده بداية الثورة “
تحصي والدته عمره يوماً بيوم، تقول أصبح عمره 28 عاما تتساءل كيف أصبح شكله، هل مازال يرخي شعره الطويل، هل أصبح نحيلاً هزيلاً، هل يتذكرني ويتذكر إخوانه، ثم تتلعثم الأسئلة لترتطم بصخرة السؤال الأقسى، هل مازال على قيد الحياة؟؟
المعتقل” فيصل” واحد من مئات آلاف المعتقلين قدرتهم الشبكة السورية لحقوق الإنسان بـ 131 ألفا و469 شخص ما بين معتقل و مختف قسرياً لدى النظام السوري منذ مارس/آذار 2011 وحتى نهاية 2021.
تتجنب والدة المعتقل أن تشاهد أي خبر أو تقرير عن المعتقلين، فهي لا تطيق سماع الانتهاكات التي تحدث بحقهم، وتتخيل ابنها يقاسي أشد أنواع التعذيب، تقول لنا :”بتمنى إنو يكون ميت من زمان ومرتاح ولا أتخيل لحظة عذاب عم يعيشها لأنو أصعب من الموت بألف مرة”.
لا يمر عيد الأم على المرأة السورية، كأي يوم عادي، بل يحمل كثيراً من الذكريات والألم ولاسيما أمهات المعتقلين والمعتقلات الذين يتعرضون لأقسى أنواع العنف الجسدي والنفسي وانتهاك حقوقهم حسب رواية مئات الناجين من الاعتقال.
أما أمهات الشهداء فهم وجع آخر، من أكبر مأساة عرفتها البشرية في القرن الواحد والعشرين، والتي خلفت مئات الآلاف من الشهداء.