قبيل آذان المغرب في أيام رمضان، تقف الطفلة “عائشة” أمام باب جيرانها وبيدها سكبة من وجبة طعام، أرسلتها والدتها إلى جارتها، في الطابق الثاني من البناء الذي تسكنه في مدينة إدلب، لتعود يدي “عائشة” محملة بطبق آخر من طبخة الجيران.
تقول والدة عائشة “إن المحافظة على توزيع سكبة طعام للجيران واجبة في رمضان، وتزيد البركة في الطعام وتقوي العلاقات بينهم ولا يمكن التخلي عنها مهما كانت الظروف المعيشية قاسية”.
تعرف “سكبة رمضان” بأنها طبق من الطعام يتم توزيعه على من حوله، من أهل أو جيران مقربين وهي عادة رمضانية قديمة متوارثة بين السوريين، تنشط في شهر الصوم، الذي يحظى باهتمام في توزيع الطعام كنوع من العبادات والصدقات أكثر من باقي الشهور، ويتشارك الغني مع الفقير في طعامه، بهدف زيادة الألفة والمحبة فيما بينهم.
ترسل “أم عدنان” مهجرة من ريف دمشق ومقيمة شمال إدلب، مع ابنتها طبقاً من طبخة اليوم إلى جارتها، تقول لنا: “جود بالموجود، لا يجب بالضرورة أن تكون سكبة رمضان من اللحوم فحسب، بل العبرة بتبادل سكبة طعام هي تقوية أواصر المحبة والألفة بين الجيران، ولاسيما أن معظمنا مهجر ونازح، ويحتاج لعلاقات اجتماعية جيدة مع الجيران والمحيط”.
تخبرنا أن “الحفاظ على عادة السكبة الرمضانية من أفضل العادات الشعبية المتوارثة منذ القدم، ومستمرة إلى اليوم رغم الظروف المعيشية الصعبة، إلا أنها قد تتأثر، ولكنها لا تختفي بل تبقى حاضرة بين الأهل والجيران”.
تتميز سكبة رمضان في مناطق الشمال السوري أنها تخلق مزيجاً من التفاعل بين أبناء المحافظات المختلفة التي هجروا منها، وبالتالي تصبح فرصة للتعرف عن قرب على الأكلات التي تشتهر بها كل منطقة وهذا ما حدثتنا عنه “أم سعيد” نازحة من ريف إدلب الجنوبي.
تقول لنا: “أطبخ يومياً صنفاً واحداً من الطعام، وأحرص أن أزيد من الكمية، لكي يتسنى لي توزيع قدر منها على باقي الجيران، وعند اقتراب موعد الإفطار، يحين موعد توزيع الصحون الطائرة كما أحب أن اسميها، وتصبح مائدتي ملونة بمختلف الأطعمة التي أرسلتها لي جاراتي فمن طقوس السكبة أن لا يعود الصحن فارغاً”.
ثم تخبرنا أنها أينما سكنت تحرص على إقامة علاقات طيبة مع الجيران وليس أسرع ولا أجمل من إرسال سكبة طعام لهم، تقول لنا”لا تقتصر عادة السكبة بين الجيران على شهر رمضان المبارك، بل هي حاضرة بيني وبين جاراتي طيلة الأيام ولكن في رمضان لها نكهة مميزة، وفيها بركة وخير أكثر من باقي الأيام، وتعد السكبة في الإسلام من الصدقات والأعمال الطيبة”.
أثرت الحرب بشكل مباشر على معظم عادات السوريين ولاسيما الرمضانية، وفرضت الظروف المعيشية والاقتصادية المتدهورة نمطاً من التقنين والتقتير في لقمة عيش المواطن، إلا أن عادة “سكبة رمضان” مستمرة حسب من التقيناهم من الأهالي كنوع من الإحساس بالغير وتفقد حال الجيران رغم ضيق العيش المشترك بينهم.
كما تنشط الجمعيات الخيرية عدداً من المنظمات الإغاثية في توزيع وجبات طعام جاهزة على الصائمين في رمضان ولاسيما أهالي المخيمات، تقول “سناء” مقيمة في مخيم البردقلي شمالي إدلب، مهجرة من دمشق، إنها تعتبر الوجبة اليومية ضرورية لكثير من العائلات، ولكنها لا تحل مكان السكبة الرمضانية المعروفة تقول لنا: “من خلال السكبة التي نتبادل أطباقها أنا وجيراني بالمخيم، استطعت التعرف على مأكولات جديدة، كـ الباطرش الحموي، والثريد المشهورة به دير الزور، وكبة السفرجل التي تذوقها من جارتي الحلبية، وأنا بدوري عرفتهم على الأطباق الشامية”.
يعيش الأهالي اليوم في الشمال السوري، ظروفاً اقتصادية قاهرة، يتحايلون على واقعهم الصعب بالحفاظ على طقوس قديمة، لها ذكريات في مخيلتهم، تدفعهم للحفاظ عليها وممارستها رغم حياة البؤس والنزوح والتهجير، لدلالة على إبقاء الخير بين الناس، في أبسط الأمور كصحن طعام يدخل المنزل فيجبر الخاطر.