يسعى الفنان أيهم أحمد والذي كان أحد سكان مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا سابقاً، عبر الموسيقى إلى بناء جسر حضاري بين الألمان واللاجئين الفارين من النزاعات الدامية في الشرق الأوسط.
نشر أيهم سيرة ذاتية بعنوان “عازف بيانو اليرموك” صادرة عن منشورات “لاديكوفارت” الفرنسية، يقدمها للجمهور خلال جولته الباريسية مطلع نيسان/أبريل الجاري.
حيث يروي في كتابه فصول رحلته الشاقة نحو أوروبا، بعد نضال من أجل الحياة كان قوامه البيانو… فجعلت منه الموسيقى رمزا للأمل عبر العالم.
ويهدف الإصدار بحسب أيهم إلى “التصدي للأفكار المسبقة والنمطية، والقراءات السطحية، وأيضا الصور المضللة. فحين تهرب من القنابل والمجاعة، تترك عالمك خلفك، تتحول إلى واحدة من تلك الصور الظلية الرمادية التي عاشت بالضرورة نفس المعاناة، وتأتي الآن لتتمتع بثروات أوروبا”.
تحول الموسيقي أيهم أحمد إلى رمز بفضل فيديوهات نشرت أولا على موقع يوتيوب قبل أن تتداولها وسائل الإعلام، يظهر فيها وهو يعزف على البيانو على أنقاض في مخيم اليرموك قرب دمشق.
وفي صورة شهيرة التقطت له في 2015، وتداولتها وسائل الإعلام عبر العالم، بأنامله التي تداعب المفاتيح البيضاء لآلة البيانو… كان بمثابة زينة في ديكور المكان.
وقد تبقى تلك الصورة لأيهم بين أنقاض حي اليرموك، في دمشق، والذي دمره قصف قوات نظام الرئيس بشار الأسد، رمزا للإنسانية في صراع يدمر سوريا منذ سبع سنوات.
“لا أحد يعرف موزارت هنا”
تعلم أيهم الموسيقى خلال طفولته على يد والده، الذي كان كفيفا ويعزف على آلة التشيلو الموسيقية. يقول أيهم “لقد كان والدي يسند الكمان على الفراش، ويضع جسم الآلة تحت ذقنه، وكان القوس ينحني نحوي تارة ثم نحو الجهة المقابلة تارة أخرى”.
ويضيف “لقد كان هناك عطر خفيف يملأ الغرفة، كان يصدر عن الياسمين المتسلل من تحت النافذة، وأيضا من قفص العصافير المحاذية. لقد كان هديل الحمام يشبه الموسيقى، وهكذا، كنت أستمع إلى والدي، في ذلك المأوى السعيد”.
وقد التحق أيهم في السادسة من عمره بالمعهد العربي، وهي مدرسة لتعليم الموسيقى في دمشق، حيث تعلم كلاسيكيات تشيرني، بيتهوفن، وموزارت.
لكنه لم يشعر هناك بأنه في المكان المناسب في مؤسسة خاصة بالنخبة، وأحيانا، راودته الرغبة في التخلي عن كل شيء، ولطالما تساءل ما الجدوى من تعلمي البيانو؟ ما الذي سيحققه لي؟ لا أحد يعرف موزارت هنا!
ويقول أيهم هكذا صرخت في وجه والدي الذي رد عليّ “عليك أن تتعلم لغة يفهمها الجميع، نحن لاجئون، لا يمكن لنا أن نعود إلى وطننا، يجب أن تكون عالميا”. وهذه الكلمات بقيت محفورة في ذاكرة أيهم، وباتت ما يشبه الفأل الحسن.
ويقول أيهم هكذا صرخت في وجه والدي الذي رد عليّ “عليك أن تتعلم لغة يفهمها الجميع، نحن لاجئون، لا يمكن لنا أن نعود إلى وطننا، يجب أن تكون عالميا”. وهذه الكلمات بقيت محفورة في ذاكرة أيهم، وباتت ما يشبه الفأل الحسن.
لاحقا، وبعد عشر سنوات من التكوين، أصبح أيهم مدرس بيانو وافتتح مع والده ورشة لتصنيع آلات العود والتي ازدهرت بسرعة.
وفي سن الثالثة والعشرين، التقى حب حياته تهاني. وعند زواجهما، اندلعت الحرب في سوريا. وحين رزقا بأول ولد لهما في 2012، كانا يعيشان فعليا بين الأنقاض.
“ثورتي هي الموسيقى”
لقد ابتلعت الحرب كل شيء، وبعد أن أصابته شظية في يده، قرر أيهم جعل الموسيقى شكلا من أشكال المقاومة. ويقول “أنا عازف بيانو، لم أحمل يوما راية، ثورتي هي الموسيقى”.
وخلال أسابيع، تنقل أيهم بين الأطلال وهو يجر آلة البيانو على عربة بمساعدة أصدقائه وبعض تلاميذه، الذين شاركوه الغناء أحيانا. وهناك بين الأنقاض، عزف أيهم على ذلك البيانو الغير متناغم [مضبوط].
وقال أيهم “كنت أريد أن أسمع الآخرين يأسنا، أن يسمعوا المرأة الحامل التي تقضي على حواجز التفتيش، عذاب انتظار بطاقات التموين نصف ليلة كاملة ثم العودة والأيدي فارغة. فغنائي هو مثل صراخ شخص ما، الوقوع في الهاوية، إنه إعطاء لحن لذلك النزول نحو الجحيم”.
وقد بدأت تلك الفيديوهات المصورة لـ “حفلاته” الموسيقية في شوارع مخيمه، والتي نشرت على موقع يوتيوب، تجعل من أحمد أيهم شخصا مشهورا ورمزا للإنسانية في العالم.
في حزيران/يونيو 2015، أقدم أحد جهاديي تنظيم “الدولة الإسلامية” على إحراق البيانو الخاص بأيهم. فكانت صدمة هزت كيان هذا الموسيقي، لكنه قاوم فترة من الزمن، من خلال العزف على آلة الأكورديون في شوارع اليرموك، لكن المقاتلين، المجاعة، والخوف، دفعاه في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار الهجرة نحو ألمانيا.
وقد كانت رحلته مشابهة لرحلة مليون لاجئ سوري آخرين، حيث الانفصال عن عائلته، والعبور المحفوف بالمخاطر للبحر الأبيض المتوسط على متن قارب مطاطي، والطريق المجهد عبر دول البلقان، وأخيرا الوصول إلى ألمانيا لاحقا بعد شهرين.
“الموسيقى… جواز سفر”
وهنا، على بعد 3000 كلم عن منزله، يبدو أن سمعة أيهم قد سبقته إلى ألمانيا، حيث ساهمت فيديوهاته المتداولة على وسائل الإعلام في شهرته. ولم يتأخر أيهم في اعتلاء خشبة المسرح والمشاركة في مهرجانات حظيت بإقبال الجمهور.
وفي بلد لا يتقن لغته، تائها في تلك الموجة من طالبي اللجوء، ومع قلقه وهواجسه لإحضار عائلته أيضا، لم يتوان أيهم عن اعتلاء الخشبة، حيث إنه يدرك بأن الموسيقى هي “أداة تقارب بين الناس”.
وفي كتابه، قال عازف بيانو اليرموك “شعرت بأن أغنياتي قادرة على بناء جسر بين الألمان واللاجئين، لقد أردت أن أغني من أجل السلام والأطفال في سوريا. أردت أن أشكر الألمان على حسن ضيافتهم، باسم كافة السوريين، الفلسطينيين، والعراقيين”.
وفي 2016، حصل أيهم أحمد على حق اللجوء في ألمانيا وتمكن من إحضار زوجته وطفليهما. وتعيش الأسرة حاليا في مدينة فيسبادن (وسط) بعيدا عن أرضه الضائعة، لكن تبقى الموسيقى جواز سفر، وصلة ورابط بين عالمين.