انطلقت الثورة السورية بهدف إصلاح نظام الحكم في البلاد، وتطورت سريعاً إلى المطالبة بإسقاط النظام. بهذا المعنى، ثمة من يقول إن الثورة السورية أخفقت.
لا بالحراك الشعبي السلمي، ولا بقوة السلاح، استطاع السوريون إطاحة نظام الأسد. تحولت الثورة السورية، بعد سنوات قليلة من انطلاقها، إلى حرب أهلية بالغة الدموية، ومن ثم إلى ميدان للصراع الإقليمي والدولي.
ولكن، وبالرغم من الدمار الهائل الذي وقع بالبلاد، بالرغم من مئات الألوف من الضحايا وملايين اللاجئين، وبالرغم من خسارة نظام الأسد سيادته، لم يزل هذا النظام يمثل سوريا في الساحة الدولية، ولم يزل يدير شؤون ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية.
أكثر من ذلك، حقق النظام، وإن ببطء ودعم كبير من حلفائه الروس والإيرانيين، تقدماً مطرداً في حربه ضد قوى الثورة السورية المسلحة؛ وهو ماض في بسط سيطرته على المزيد من الجغرافيا السورية.
ولأن الإخفاقات تستدعي دائماً البحث عن من يتحمل مسؤوليتها، لم يلبث الجدل حول إخفاق الثورة أن انطلق، وليس فقط في دوائر الشعب والثورة السورية. المسؤول الأول، يقول عدد من المنخرطين في هذا الجدل، هو المعارضة السورية، المعارضة بجناحيها: السياسي والمسلح.
لم تنجح المعارضة السياسية في توحيد صفوفها، وتحولت إلى منصات متعددة، تابعة لهذه الدولة أو تلك، بدون أن تستطيع تقديم قيادة كارزمية، يلتف حولها الشعب، أو تقنع العالم بجدية تمثيلها للثورة والشعب.
وإلى جانب الافتراق المقيم بين جناحي الثورة السياسي والعسكري، عانت الثورة السورية من وجود عشرات التنظيمات العسكرية، مختلفة الأحجام، التي لم تنشغل بالمواجهة مع النظام وحلفائه، وحسب، بل وفي الصراع فيما بينها.
وعندما أصبح من الضروري على قوى المعارضة المسلحة حماية هوية الثورة، أحجمت عن مواجهة تنظيمات القاعدة وداعش وطردها من الساحة السورية.
خضع أغلب هذه الجماعات المسلحة لقيادات تفتقد التجربة السياسية والعسكرية، وبدا بعضها أحرص على وجود كيان كاريكاتوري من الحفاظ على مصالح الشعب والثورة. هذه، باختصار، معارضة لم تكن في أي لحظات الثورة مؤهلة لقيادة الشعب، أو مواجهة التحديات التي فرضها تحول سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي. وما إن أخذ ميزان القوى في الانقلاب لصالح النظام، عجزت المعارضة، بجناحيها، عن الصمود.
أغلب هذه القراءة للمعارضة السورية صحيح؛ ولكن ما لا يخفى أن هذه الإدانة للمعارضة تستبطن إدانة أخرى للشعب السوري. في النهاية، ومهما كانت مرجعيات القراءة، فإن هذا الشعب هو الذي أفرز هذه المعارضة.
بهذا المنطق، إذن، يسهل الاستنتاج أن الشعب السوري لم يكن جاهزاً لخوض معركة الإصلاح والتغيير، وأن الطرف المنتصر هو الطرف الأكثر جدارة بحكم سوريا وقيادتها.
ما تتجاهله وجهة النظر هذه أن الثورة السورية لم تكن ظاهرة معزولة، ولكنها انطلقت في سياق أوسع، سياق من حركة ثورة عربية من أجل التغيير. ولذا، فمن الخطأ قراءة ما حدث في سوريا بمعزل عن مصير حركة الثورة العربية ككل.
واليوم، وبعد مرور ما يزيد عن سبع سنوات على اندلاع الثورة في تونس، مصر، ليبيا، سوريا، واليمن، يمكن القول أن هدف تغيير النظام السياسي لم يخفق في سوريا وحسب، بل وفي كافة دول الثورة الأخرى.
وقد وقع هذا الإخفاق حتى في الدول التي لم تشهد لجوء للسلاح، التي لم يلوثها بروز تنظيمات إرهابية، مثل داعش والقاعدة، والتي أظهرت فيها معارضات النظام القديم مستوى من النضج يفوق ذلك الذي أظهرته قوى المعارضة السورية.
حتى في الحالات التي حققت فيها الثورة هدف إسقاط النظام والقبض على مقاليد الحكم، لم تلبث الطبقات الحاكمة السابقة أن نجحت في الردة على الثورة واستعادة مواقعها في قيادة النظام والسيطرة على مقدرات الدولة.
حقيقة ما حدث أن ميزان القوى انقلب سريعاً لغير صالح حركة الثورة العربية في كافة دول الثورات. وقع هذا الانقلاب ليس بفعل سذاجة المعارضة وعدم كفاءتها، أو لأن الشعوب لم يكن لديها الاستعداد لتقديم التضحيات الضرورية، بل لتبلور ظروف موضوعية قاهرة، تفوق قدرات المعارضة والشعب.
لأن حركة الثورة والتغيير كانت حركة عربية، ولم تكن سورية أو يمنية أو ليبية، وحسب، فقد أحدثت استنفاراً مضاداً على طول المجال العربي وعرضه، بل وفي المحيط الإقليمي كذلك.
وما إن أدركت قوى الثورة المضادة حجم حركة الثورة وتأثيرها، حتى تحركت لبناء تحالف واسع النطاق، ضم هذه الدول، من جهة، والطبقات الحاكمة التقليدية في دول الثورات، من جهة أخرى.
حتى بدون توافق وتخطيط مسبق بينها، تحركت دول مثل نافذة، بمقدرات سياسية وعسكرية ومالية هائلة، مثل السعودية والإمارات وإيران، في تحالف مع رجال أعمال وضباط جيش وبيروقراطية دولة وجماعات طائفية، لإيقاع الهزيمة بحركة التغيير والتحول الديمقراطي.
رأى معسكر الثورة المضادة في حركة الثورة والتغيير تهديداً لامتيازاته وسلطاته ونفوذه في المجال العربي برمته، وقرر بالتالي خوض المعركة على المستوى العربي.
إلى جانب ذلك، لم تجد حركة الثورة العربية الحاضنة الجادة، التي يمكن أن تقدم الدعم والحماية في لحظات التغيير القلقة والحرجة. في عالم متداخل، ليس ثمة تحول ديمقراطي، خارج الكتلة الأطلسية، نجح بدون حاضنة خارجية.
بدون الدعم الأمريكي والأوروبي، السياسي والاقتصادي، ما كان للتغير الديمقراطي أن يضرب بجذوره في بنية الدولة القومية في إسبانيا والبرتغال، بعد انهيار النظام الاستبدادي في الدولتين، ولا في دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الكتلة الشيوعية وأنظمتها الحاكمة. في دول الثورة العربية، جاء التأييد الغربي للثورات ولعملية التحول الديمقراطي بطيئاً ومتردداً، وما لبث أن انقلب إلى عدم مبالاة أو عودة إلى سياسة الشيطان الذي نعرفه.
في كافة دول الثورة العربية، وليس في سوريا وحسب، كان ثمة تباين صارخ بين مواقف الدول التي ادعت تأييد عملية التحول الديمقراطي وتلك التي وقفت إلى جانب النظام القديم والطبقات الحاكمة التقليدية.
وضعت الإمارات والسعودية وإيران كل إمكاناتها العسكرية والسياسية والمالية لإيقاع الهزيمة بقوى الثورة والتغيير، بينما وقف العالم، في معظم الحالات، متفرجاً على آلة القمع الدموية في العراق وسوريا واليمن وليبيا.
في سورية، كان ثمة خصوصية إضافية. ففي كافة حالات التغيير السياسي في القرن الماضي، كان على الطبقات الحاكمة، ما إن تواجه بمعارضة شعبية واسعة النطاق وتفقد قدرتها على التمتع بأدنى شروط الحكم، الاختيار بين نهجين رئيسين: التخلي عن السلطة أو خوض مواجهة دموية مع الشعب.
أمثال شاه إيران، بن علي، حسني مبارك، وعبد الله صالح تخلوا عن السلطة، وإن كانت تكلفة قرار التخلي باهظة، وأمثال القذافي وبشار الأسد اختار المواجهة. القذافي أطاح به تدخل خارجي حاسم؛ الأسد، من جهة أخرى، ارتكز إلى عصبية طائفية دموية، وما إن أدرك عجزه عن تحقيق النصر على الثورة والشعب حتى استدعى الدعم الطائفي الإقليمي.
وعندما أخفق وحلفاؤه الإقليميون معاً، لم يتردد في التوسل إلى القوة الروسية، حتى إن كان الثمن فقدان السيادة والقرار.
أخفقت الثورة العربية في تحقيق هدف التغيير والانتقال الديمقراطي، صحيح. ولكن أسباب هذا الإخفاق كانت أكبر بكثير من عوامل القصور الذاتي في حركة الشعب وقواه المعارضة.
ما يجب تذكره أن الإخفاق الراهن ليس نهاية الطريق. فإن لم يكن لحركة الثورة العربية إلا كشفها عن عجز الدولة والنظام الإقليمي عن الاستمرار، لكفى. في مسار تاريخي بالغ التعقيد والتحول، ليس ثمة نهاية للطريق.