يحدث في سوريا الأسد

Facebook
WhatsApp
Telegram

حدثني صديقي أبو النور قائلاً: سأحكي لك عن رجل اسمه (قاف) كان زبوناً مداوماً في مدرسة الأب القائد حافظ الأسد النضالية منذ أن كان الأسد يكنى بـ “أبي سليمان”، واستمر يحبه، وينقِّب عن الجوانب العبقرية والبطولية في شخصيته، حتى وافته المنية في حزيران سنة 2000.. والمنية، على ذمة زهير بن أبي سلمى، تخبطُ خبطَ عشواء، ومع ذلك لعبت لصالحه، فرفعته من رتبة “قائد تاريخي” إلى رتبة “قائد خالد”.

بعد قليل سألني: هل تعرف كيف صار اسمه “أبو باسل”؟
قلت: افترض أني لا أعرف، واحك لي.

قال: عندما لاحت الصابونة على وجهه، في أوائل التسعينات، وأيقن أنه سوف يذهب (إلى حيثُ ألقتْ رحلَها أمُّ قَشْعَمِ)، أحسَّ بالعطب، وبدأ يفكر بأفضل طريقة للتوريث، خشيةَ أن يبقى الشعب السوري العظيم من دون قائد تاريخي، ويبدو أنه جمع خلاصة الخلاصة من أركان حربه، في ليلة ليلاء، وتداول معهم في الأمر، وتوصلوا إلى أن أول خطوة يجب اتباعُها لنقل الحُكم إلى ابنه بسلاسة هي أن يَسحب أساطينُ الإعلام مصطلحَ “أبو سليمان” من ميدان التداول، ويُنزلوا مكانه مصطلح “أبو باسل”، ولا شك أنك تذكر المطرب اللبناني “علي حليحل” الذي غنى “أبو باسل قائدنا يا بو الجبين العالي”.

قلت: طبعاً.
قال: إنه مطربٌ مغمور، ونحن السوريين نعرف المطربين اللبنانيين أكثر مما تعرفهم عائلاتُهم، ومع ذلك لم نسمع به من قبل، ولكن يا أخي الإعلام له سطوة، إذ ما إن طلعت أغنية “أبو باسل قائدنا” حتى راحت القنوات الإعلامية المسموعة والمرئية (تعلكها) في آناء الليل وأطراف النهار، وتَبَخَّشَتْ، بسببها، طبلاتُ آذان أبناء الشعب السوري من باب الهوى، إلى مفرق كَسَب، إلى مفرق جاسم والصنمين، وأما أغنية مصطفى نصري التي يقولها فيها (عهد التحرير يا أبو سليمان) فقد أصبحت بحكم الممنوعة، ونزل، كما قال لي أحد المغرضين، تعميم إلى طاقم التنظيف في مديرية الأشرطة التلفزيونية، يأمر بمسح الغبار عن كافة الأشرطة التي لا تُسْتَعْمَل، عدا شريط أغنية (أبو سليمان).

المهم أن ذلك الهيجان الطربي الحليحلي قد تزامن مع نقل عدد لا يستهان به من الملفات الداخلية والخارجية من يد حافظ مباشرة إلى يد “الباسل”، ولم ينسَ أبوه أن يعلمه أفضل الطرق التي تلزم للضحك على البسطاء، وأهمها الذهاب إلى الديار المقدسة والتقاط صورة بثياب الإحرام، على أن يظهر في الصورة تناغم الشراشف البيضاء مع لحيته السوداء الجميلة، ثم يقوم عناصرُ المخابرات الأكارم بطرش هذه الصورة في أنحاء البلاد التي سيحكمها هذا الفتى المحظوظ، الذي سيورثه أبوه دولةً كاملة، من بابها إلى محرابها.

قلت لأبي النور: حلمك علي، أنت بدأت حديثك بسيرة رجل اسمه قاف، ثم استلمت بيت الأسد على طريقة عشرة بلدي، ضيعتني.

قال: معك حق، ولكن السيرتين متداخلتان، ففي أواخر سنة 1994، ومن دون أي تدخل من قبل الاستعمار والصهيونية والرجعية الداخلية، اصطدمت السيارة التي كان يقودها الباسل، بالمنصف الحجري الحقير الموجود في مطار دمشق الدولي، فأدى ذلك إلى وفاته وهو في ريعان الشباب، يا حبة عيني، ووقتها، إذا كنت تذكر، زحفت الجماهير الكادحة، برؤوس وبلا رؤوس، إلى مدينة القرداحة، لتعلن عن حبها للقائدين، (المقتول، والباقي على قيد الحياة)، وتعاطفها، وألمها من هذا المصاب الجلل، وانطلقت حناجر بعض الإخوة المشايخ تحكي عن تقى الباسل، وورعه، حتى إن أحد علماء الدين المحترمين أعلن أمام الجماهير المحتشدة أنه، في أول ليلة أعقبت رحيل هذا الفارس الذهبي المحترم، قد نام على وضوء، وإذا به يرى الباسل في الحلم، مرتدياً ثيابَ الإحرام نفسها وقد أضيفت إليها لَفَّةٌ قماشية ناصعة البياض، تنزل على جبينه حتى لتكاد تغطي عينيه، وجلس أمامه القرفصاء، وقال له:

– الحمد لله الذي أذاقني الشهادة يا شيخي، لو تعلمون ما أنا فيه من هناءة لسقتم سياراتكم بسرعة 280 كيلومتر في الساعة وذهبتم باتجاه المطار حالاً.

هنا تبسم أبو النور وقال: وسط هذا الجو الاحتفالي المشحون بالخشوع، غرغرت عينا الأخ (قاف)، وتدحرجت دمعة كبيرة فوق ذقنه الحليقة، حتى وصلت إلى رقبته، فلسعته برودتها، واقشعر بدنه، وأشاح بوجهه عن الحاضرين، وهو يقول لنفسه: حي.. حي..

وكما يتحرك النسناس في الغابة، بحيث تلمحه عيناك على نحو خاطف ثم يغيب، ويظهر على بعد أمتار في الأمام، نَسَّ (قاف) من مجلس العزاء المقام في بلدة الصمود والتصدي (القرداحة)، وغاب عن الأنظار!

غاب عن نظري أنا أيضاً- قال أبو النور- فلم أعد أراه في أي مكان، مع أنه لم يكن يتكنس من المهرجانات الخطابية، ومن ملاعب كرة القدم حيث كان يجلس في وسط رابطة المشجعين حاملاً صورة القائد..

قلت: أي قائد؟
قال: الأساسي حافظ، ويحمل بجواره أحياناً صورة الباسل، وأحياناً الصورة العائلية حافظ وباسل وبشار وماهر وأنيسة..
قلت لأبي النور: بماذا تفسر اختفائه؟
قال: أغلب الظن أنه سمع نصيحة باسل عبر منام الشيخ، فاشترى سيارة مرسيدس وأقبل نحو مطار دمشق الدولي بسرعة 280 كم/سا، فاستشهد غير مأسوف عليه، والله أعلم.

مقالات ذات صلة