كانت الخطوات تركض وسط زحمة وحياة، وأحلام العودة تملأ جدران الشوارع، كان الغناء يملأ فضاء المكان، من سميح شقير إلى مارسيل خليفة، وفرقة الأرض والعاشقين، والشيخ إمام.
في المخيم..
كان كلُّ شيء يركض نحو أحلام تضع يداً على الشام وأخرى على فلسطين نتقاسم الأحلام، على ضوء شمعة، و مصباح كاز وغاز، نقرأ كنفاني ودرويش، نحفظ أحمد الزعتر، ونبكي على بيروت خيمتنا الأخيرة، نبكي على تل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، نقرأ ساعات “جان جنيه” الأربعة، ونشم رائحةَ موتٍ يُلاحقنا هنا في مخيم اليرموك وفلسطين والحجر الأسود، وكل مخيمات الأرض.
نعرف أن للصورة الشمسية صوتٌ يدلُنا على سوق الخضرة، وشارع لوبيا، وحارات مخيم فلسطين، ونعرف أكثر أن كلَّ شاشاتِ التلفزيون باتت ملطخةً بحقيقةِ أن هذا العالم ساقط ومجنون.
في المخيم..
نرصد كلّ مسلسلات الإبادة، أيلول الأسود وصبرا وشاتيلا، ومخيم جرمانا، حيث وجه صديقتي أمل الباحث عن ثمن المازوت ليتدفأ أخوتها في غياب الأب.
الجثث اليوم يا “جينيه”، ليست مُتفحمة ومنتفخة لأنها لاتزال تحمل أحلامها تحت ردمٍ وحطامٍ وغبارْ، جثث سوريين وفلسطينين في مخيم كان ملاذ لكل الهاربين والمنفيين، هنا مشى العراقيون وغنوا، “سامي كمال” بعوده الشجي، و “كوكب حمزة” ياطيور الطايرة، هنا غنى “سميح شقير” غرفة صغيرة وحنونة.
في المخيم..
دكان جارنا الفلسطيني العوّاد، يشد حبال الصوت ويغني الدلعونا والميجانا وياطير الطاير ردني، هنا يثقبون القلوب والجدران، يحطمون الزجاج الملون بلوحات الأقصى وبرتقال يافا، يمحون ذاكرة حفظت عن ظهر قلب قصائد درويش، والكثير من الأغاني الشعبية” ع الرباعية ع الرباعية ونحن ما منام ع الغلوبية”.
في المخيم..
ينامون اليوم تحت الردم والحطام، هكذا أراد الجنرال في خريفه المجنون هنا مشى “أحمد برقاوي”، وهو يتأبط جمهورية أفلاطون وأحلام ماركس ولينين، وقصيدة اللاجيء، وصورة أمه، جكارة بالموت، وفي المخيم يسأل: “ما الذي يرجوه اللاجئ يا ابنتي، إذا دمّر الطغاة رصيف انتظاره، وراحوا يكذبون ويكذبون؟”.
في المخيم..
غادر “يوسف اليوسف” بألف حسرة فمات غريباً في لبنان، مات لاجئاً ولاجئاً ولاجئاً منفياً من بيته الذي كتب فيه الأيام، وكل كتب النقد، هنا يتداعى كلُّ شيءٍ، يموت صانع العود، وبائع الزهور، ويقتل العالِم “باسل الصفدي” في معتقل النظام، في المخيم الحجارة تبكي أهلها يا أمي.
“هي هجرة أخرى فلا تكتب وصيتك الأخيرة”، 70 عاماً من تاريخ النكبة، (1948-2018)وها نحن اليوم نتقاسم مع الفلسطينيين النفي والحصار، والتهجير القسري، 7 سنوات عجاف، وها هي الباصات الخضر تقف وترحّل من تمسكوا بمكانهم، مخيم تحول إلى سجن ومقبرة ومدينة أشباح، ها هي الباصات تقف وغصبا عنهم يهجّرون، سبع سنوات عجاف أكلوا خلالها من حشائش اﻷرض ومات منهم المئات، والآن تبدأ التغريبة الثانية ولن تنتهي، سبعون عاماً بين التغريبتين.
ها هو مخيم اليرموك يمسح عن الخارطة الفلسطينية، كل هذا مسحه نظام الممانعة، برعاية دولية، وبحجة الاختراع الجهنمي داعش، تلك الفزاعة التي أوجدوها، فكانت ثورة مضادة لثورتنا الأجمل، فغابت الأعراس والأهازيج، ومن مخيم إلى مخيم يقف اليوم السوري والفلسطيني، على بساط يسحب من تحت أقدامهم، فمن يشك اليوم بأن التهجير ليس قسرياً؟
في المخيم..
تكتمل صورة الإبادة ويرتفع منسوب التدمير والإبادة والتهجير المدروس والممنهج، أمام صمت العالم وتواطؤ المجتمع الدولي، “فإذا التحوت حكموا وطناً أبادوها، وإذا دخلوا مدينة اتلفوها “، أستعين بشذرة من شذرات ابن المخيم السوري الفلسطيني الفيلسوف “أحمد برقاوي”، وأقول “الباصات تقف اليوم في المخيم، رصيف الانتظار الطويل، والقصص يحملها الهواء”.
إلى اين يا أمي؟، إلى أين ونحن نحمل شموع الانتظار، وأنت ترددين إنها نهايتهم وستكون وخيمة وخيمة، ونحن ننتظر وسننتظر.