لم يخطر على بال “حسن” عندما أفضت حرب النظام على المدنيين والفصائل المقاتلة في دوما على حد سواء إلى خروج حاملي السلاح وأهاليهم والنشطاء والإعلاميين والأطباء، سوى أنه سيرتاح وعائلته الصغيرة من وحشية القصف اليومي، وكل أشكال الموت بالسلاح والجوع والقهر في منطقته الواقعة ضمن الغوطة الشرقية.
تَركه بيت طفولته وطفولة أولاده لم يكن أمراً سهلاً على الإطلاق، إذ أضيف إلى قائمة الخسارات الكبرى التي تكبدها كباقي السوريين، أو معظمهم عندما قرروا القيام بالثورة، ولكن على الأقل سيحمله الباص الأخضر البغيض إلى مكان سوري آخر.
إذاً سيكون نزوحاً وليس لجوءاً أو ليس هذا أهون الشرور بالنسبة للسوريين؟!، تساءل حسن ومضى إلى الشمال، لا يحمل معه إلا الذكريات والغبار، ومن تبقى من أحبابه.
كانت الرحلة طويلة جداً من الجنوب إلى الشمال، من سوريا إلى سوريا، انتقل حسن ليكتشف أن الذكريات والغبار ومن تبقى من الأحباب لا يكفون لحياكة حياة مستعادة، تشبه تلك التي كانت يوماً ما تطوف داخل وعلى أطراف حيطان المنازل القديمة، قبل أن يدمرها هادم حياة السوريين.
كانت الرحلة طويلة جداً من الجنوب إلى الشمال، من سوريا إلى سوريا، انتقل حسن ليكتشف أن الذكريات والغبار ومن تبقى من الأحباب لا يكفون لحياكة حياة مستعادة، تشبه تلك التي كانت يوماً ما تطوف داخل وعلى أطراف حيطان المنازل القديمة، قبل أن يدمرها هادم حياة السوريين.
إنها نفس الـ “سوريا” نعم، ولكن وطء كلمة نازح التي اعتقدها المغادرون -رغماً عنهم- أخف من غيره، ربما كان قاسياً جداً وجارحاً كان يرفع كل يوم جداراً من الغربة بين الضيف والمضيف، بين القادم والمقيم، بين أهل المكان والنازح، دون قصدية من أحد، وفي ظل أحسن النوايا كانت هذه الجدران تنتصب لتفسح المجال من أجل نشوء فكرة الاندماج، التي كنا وما زلنا نسمعها كثيراً تترد في دفاتر حلول مشاكل السوريين الهاربين إلى أوروبا.
إذاً ستحتاج إلى الاندماج يا حسن!
هكذا فكر النازح الجديد، هذه هي الكلمة المفتاحية التي ستحل المعضلة معضلة كونك في داخل سوريا وخارجها في نفس الوقت، اندماج لا يعني تعلم لغة جديدة أو ثقافة غريبة، أو تقبل قومية مختلفة، وإنما توطين لذاكرة كاملة في مكان آخر، ذاكرة ملأى بمحتويات البيوت الأولى، وشوارع المدينة الأولى، ملأى بالصور الملونة وغير الملونة، وببقج الجدة، وبخزائن صحون الأمهات، وباللعب المقطوعة الأذرع، والدراجات، وباحة الدار، والجانرك المتساقط على أرض الحديقة، وبالسرة الملفوفة في شاش منذ عهد الرضاعة، وبأول سن رميته نحو الشمس، وبالأكلة المفضلة، وبالكلمات التي لا يفهمها إلا سكان الحي، وباللهجة والماء ونوع العنب ولون التراب، وكل الأصدقاء، والمدرسة والكتب على الرفوف وسهرات الجميع ومشاجراتهم والفرح، وبحياة سورية كاملة تبددت لحظة الصعود إلى باص التهجير، تركت خلف ضباب القصف والدمار!
وهكذا أدرك “حسن” بأنه لم يترك خلفه في الغوطة بيته المدمر وحسب، وإنما سوريته التي تم صنعها، ابتداء من هذا البيت، وكان مستحيلاً عليه أن يصطحبها معه، في رحلة الاكتشاف الإجبارية لسوريا جديدة، ليس لديه فيها بيت.