أنطلق من مقولة إن التراث هو ما يراقبنا في الحاضر، وما يلاقينا في المستقبل، ليس التراث ماضٍ مضى، بل راهن ومستقبل، وأسأل هل انتهت الحرب، أم أن هذا الراهن من القلق والفوضى والحلم بمساحة الحرية والكرامة سيبقى مستمراً، أسوق هذا الكلام بعد أن بدأت عمليات السطو على دمشق القديمة بحجة الاستملاك وإعادة الإعمار.
استملاك 74 بيتاً و56 محلاً تجارياً في حي الحمراوي العريق، إحدى أجمل حارات دمشق التي سجلتها اليونيسكو في السجل الدولي للآثار والتراث، وبالتأكيد فإن الحفاظ على هذه البيوت لا يتم إلا بالترميم والتصليح والعناية، وهو ما منع وضع أمامه كافة السدود والمعوقات.
هذا الخبر عبّر عنه بكلمات استهجان واستنكار، وخاصة الغيورين على هذه المدينة، والذين يخافون على محو هذه الذاكرة، فقد كتب شيخ الخطاطين الفنان منير الشعراني، على صفحته في “فيسبوك”، هذا الفنان الذي مشى في طفولته في هذه الأحياء، وقرأ واجهات المحلات، وهو يلتقط معنى الحرف ورائحة المكان، كتب: “شركة دمشق الشام القابضة تقبض على دمشق القديمة بتسهيل من محافظتها، لتنظيفها” وهوما يدفعنا للتساؤل: “هل انتهت الحرب حقا، لتبدأ حرب أخرى، حرب الاستملاك والهدم، ومحو الآثار”؟
وعلى طرف آخر يذكرنا المصور الفنان حنا ورد، بالفيلم الوثائقي الذي أخرجته هند ميداني عن هذا الحي عام 1986، ولو تم هدم “حي الحمراوي”، لقضي على إحدى أجمل حارات دمشق التي سجلتها اليونيسكو في السجل الدولي للآثار والتراث، خاصة أننا اليوم عدنا نسمع قانون استملاك هذا الحي وهدمه وإعادة إعماره، فهل يريدون محو ذاكرة المكان وخصوصيته، من أهله الأصليين، نعم بدأ يرتفع قانون الاستملاك، ومشاريع التعمير، هذا المشروع الذي يشير إلى محو ذاكرة مدينة، لسنا نوستالجيك، وليس الحنين فقط ما يدفع الكثيرين للوقوف ضد هذا الاستملاك أو الشروع بالهدم، بل لبناء الحاضر لا يمكن أن نمحو صورة الماضي، لأن الحاضر يقرأ الماضي.
الحي تاريخيًا كان يسمى زقاق ابن نوح، قبل أن يبني القاضي كمال الحمراوي في عام 1480 دارًا كبيرة ليقتبس الاسم منه، ثم بنى أسعد باشا العظم، قصر العظم على حدود هذه الزقاق.
ويضم الحي سوقًا مشهورًا اسمه “سوق الصاغة”، الذي تعرض إلى حريق في 1960 التهم جميع المحلات، ما دفع المشير عبد الحكيم عامر، نائب رئيس الجمهورية المتحدة حينها، إلى إصدار قرار باستملاك أحياء وأزقة الحي.
هل انتهت الحرب حقا، لتبدأ حرب أخرى، حرب الاستملاك والهدم والعمران، الحكاية مستمرة، والتي توالد عنها حكايات، فأصبح حي الحمرواي حكاية الشام، بدأت في القرن الماضي، فدافع عنها أصدقاء دمشق، والإعلام والفنانين والمحامين، من منا لا يتذكر موقف المحامي نجاة قصاب حسن وشقيقه برهان، والكاتبة ناديا خوست، وأسماء كثيرة أخرى في المسرح والدراما، وغرفة التجارة، ووقفت وزارة الثقافة ضد هذا الهدم، حكاية أتعبت أهلها، وأصحاب المحلات الأصليين، الذين تراكمت أوراقهم على أبواب الوزارات، والنقابات، والجمعيات، حتى وصلت الأوراق لمجلس الشعب، ورئاسة الوزراء.
طالب الجميع حينها بإيقاف الاستملاك وفتح المجال أمام أصحاب البيوت لترميم بيوتهم التي كانت تتداعى، طالبوا أن يسمح لهم بإعادة الترميم، ولكن دون جدوى ولا حياة لمن تنادي.
المشروع أصبح الآن واضحا، “لا برحمك ولا بخلي رحمة الله تنزل عليك”، وكان ما يمارس على أهل الحي نوعاً من الحصار والتطفيش، وكل الحلول المدنية لم تعنهم، فقط كانوا يداوون الموضوع بالمسكنات، ولا تعنيهم تلك الذاكرة والتراث والعراقة لا تعنيهم، فكل الحلول مستحيلة، ومؤجلة إلى أن جاء هذا اليوم، يريدون هدم ذاكرة المدن، ومحو سكانها، ذاكرة تشكل هوية لأقدم مدينة مأهولة في التاريخ، فهل تذهب كل الأمنيات أدراج الرياح، أم تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالتخطيط لمحو وجه المدينة، أوقف كل القرارات والمواقف والجمعيات، ليصبح تراث دمشق في مهب الريح!
وكأننا أمام رواية حي، أو رواية مدينة، تحولت حياة أصحابها إلى معاناة، فقد نقلت الملكية لمحافظة دمشق سابقا، وفرض عليهم دفع الإيجار، أو تعويض لا يغني ولا يثمن، التفاصيل كثيرة وقد كان هناك الكثير الكثير من الكتابات، في الصحف الرسمية، وغيرها، أصحاب هذا المكان تحولت حياتهم إلى معاناة وقلق، وكأننا أمام حكايات متداخلة وملفات تبدأ ولا تنتهي، التخطيط لمحو وجه المدينة وما يقف وراء هذا القرار من نضال أصحاب المدينة، ولكن أوقفت كل القرارات، وأصبح تراث دمشق في مهب الريح.