في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سوريا عقب سقوط نظام الأسد السابق في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وما تبعها من تسلُّم الحكومة السورية الجديدة زمام الأمور، يبقى السؤال الملحّ: هل شهدت البلاد حلولًا حقيقية للواقع الاقتصادي المدمر خلال الربع الأول من عام 2025؟
وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن اقتصاد حر ومنافسة حرة وخصخصة، لا توجد حتى الآن خطة واضحة لكيفية النهوض بالواقع الاقتصادي الذي دمرته سنوات الحرب والعقوبات الدولية.
ومع ذلك، بدأت بعض المؤشرات الاقتصادية تظهر على الساحة، وهي مؤشرات تحمل في طياتها بارقة أمل، لكنها ما زالت تحتاج إلى وقت لتحقِّق تأثيراتها الكاملة.
بدايات التعافي ولكن ببطء
يؤكد الباحث الاقتصادي محمد غزال في حديثه لمنصة سوريا ٢٤ أن التحصن الاقتصادي الحقيقي لا يزال في مراحله الأولى: “لا يمكننا القول إننا دخلنا مرحلة التحصن الكامل، لكن هناك بداية لحالة تعافٍ اقتصادي”.
العائق الرئيسي الذي يعيق هذا التعافي هو استمرار العقوبات المفروضة على سوريا، والتي تجعل عملية الانتقال من حالة البطء الشديد إلى التعافي الطبيعي أمرًا صعبًا.
وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن القطاع المالي والمصرفي بدأ يلعب دورًا أساسيًا في دعم الاقتصاد السوري، خاصةً فيما يتعلق بالتجارة الخارجية ودعم الليرة السورية في الأسواق الخارجية.
وعلى سبيل المثال، منذ إعادة فتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن، شهدت التجارة مع الأردن انتعاشًا ملحوظًا، حيث ارتفعت بنسبة تتجاوز أربعة أضعاف مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وهذا الانتعاش يُعد مؤشرًا إيجابيًا على بدء التعافي الاقتصادي، إلا أنه لم يكن كافيًا لتغيير الوضع بشكل جذري في الربع الأول من العام.
خفض معدلات التضخم
وشهد الربع الأول من عام 2025 انخفاضًا ملحوظًا في معدلات التضخم، وهو أحد المؤشرات الإيجابية التي تم تسجيلها.
وفقًا للأرقام التي قدّمها غزال:
– معدل التضخم الشهري في الشهر الأول من العام كان حوالي 13%، مقارنةً بـ 8.5% للفترة نفسها من العام الماضي.
– أما التضخم السنوي لشهر شباط/فبراير، فقد انخفض إلى حوالي 15.5%، مقارنةً بـ 109% للفترة نفسها من العام الماضي.
هذا الانخفاض في معدلات التضخم جاء نتيجة تحسن سعر صرف الليرة السورية، حيث تحسنت الليرة بنسبة تزيد على 20% منذ بداية العام وحتى نهاية الربع الأول.
ومع ذلك، فإن انخفاض الأسعار الناتج عن هذا التحسن كان أقل مما كان متوقعًا، مما يعني أن المواطنين ما زالوا يشعرون بضغوط معيشية كبيرة.
تحسين سعر الصرف: تحدٍّ مستمر
يمثل تحسين سعر صرف الليرة السورية تحديًا رئيسيًا، إذ فقدت العملة أكثر من 90% من قيمتها منذ عام 2011.
وبعد أن كان الدولار الأمريكي يساوي نحو 50 ليرة سورية، تجاوز سعر الصرف الرسمي مؤخرًا عتبة 10 آلاف ليرة سورية، مقارنةً بـ 15 ألف ليرة سورية في السوق السوداء قبيل سقوط النظام السابق.
وبعد اندلاع الصراع في سوريا، وتوسّع العقوبات الغربية على نظام الأسد السابق، أصبحت روسيا الجهة الوحيدة التي تطبع العملة السورية، كونها الحليف الأبرز للنظام السابق.
وبعد الإطاحة بالأسد وهروبه إلى موسكو، تلقت دمشق شحنة واحدة مُعلَنة على الأقل من أوراق نقدية مطبوعة في موسكو.
وأعلن المصرف المركزي في شباط/فبراير الماضي عبر وكالة “سانا” عن وصول مبالغ نقدية بالليرة السورية قادمة من روسيا، دون الكشف عن كميتها.
ويُنظر إلى هذه الخطوة كجزء من محاولة دعم الاستقرار المالي في ظل استمرار أزمة السيولة وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
ومع ذلك، قد تؤدي طباعة المزيد من العملة إلى زيادة التضخم إذا لم تُدعَم بإصلاحات هيكلية تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة الإيرادات.
ارتفاع البطالة وغياب الخطط الاستراتيجية
من جانبه، أكد المحلل الاقتصادي عبد الحكيم المصري في حديثه لمنصة سوريا ٢٤ أن الوضع الاقتصادي ما زال يواجه تحديات كبيرة، أبرزها ارتفاع معدلات البطالة: “للأسف، البطالة ارتفعت خلال هذه الفترة بسبب قلة فرص العمل المتاحة، وقد تجاوزت النسبة 13 إلى 14%”.
بالإضافة إلى ذلك، لا توجد أرقام دقيقة حول الناتج المحلي الإجمالي، لكن التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد قد شهد زيادة في الإيرادات خلال هذا الربع مقارنةً بالسنوات السابقة، حيث من المتوقع أن تكون الإيرادات تجاوزت حاجز 5 إلى 6 مليارات دولار، وهذا التحسن يأتي نتيجة دخول العملات الأجنبية بشكل أكبر، خاصةً بعد أن أصبحت الحوالات المالية تدخل عبر القنوات النظامية بدلًا من السوق السوداء، حسب المصري.
مؤشرات إيجابية ولكنها غير كافية
رغم التحديات، هناك مؤشرات إيجابية بدأت تظهر على الساحة الاقتصادية.
من أبرز هذه المؤشرات:
- زيادة الطاقة التشغيلية: تحسن الكهرباء يُعد مؤشرًا إيجابيًا على زيادة الطاقة التشغيلية للشركات والمعامل، مما يؤدي إلى زيادة العرض وتقليل الأسعار.
- دور النفط: تعزيز إنتاج النفط يساهم في دعم الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، ويحفز الحركة الإنتاجية بشكل عام.
لكن المصري يشدد على أن هذه المؤشرات ليست كافية لتحقيق تعافٍ اقتصادي شامل: “ما زلنا بحاجة إلى خطط استراتيجية طويلة الأمد لمعالجة الأزمات الهيكلية، وتوفير فرص عمل مستدامة، بالإضافة إلى تحسين بيئة الاستثمار وجذب الاستثمارات الخارجية”.
توقعات المستقبل: الأمل في الربع الثالث
وفقًا لتحليلات غزال، فإن الربع الأول من عام 2025 يمكن اعتباره بداية لمرحلة جديدة من التعافي الاقتصادي والتخطيط للاستثمار المستقبلي، ومع ذلك، فإن التحسن الحقيقي سيحتاج إلى وقت أطول، وقد لا نرى نتائج ملموسة إلا في الربع الثالث من العام أو بعده.
ويوضح غزال أن الوقت اللازم لرؤية تأثير هذه الإجراءات بشكل فعلي على الاقتصاد يتطلب مرور فترة زمنية تتراوح بين دورة تشغيلية واحدة أو دورتين ربع سنويتين: “قد نبدأ برؤية تحسن ملحوظ بعد حوالي 6 أشهر، وتحديدًا بعد شهر يوليو من هذا العام”.
ووسط كل ذلك، فإن الواقع الاقتصادي في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد السابق، يحمل في طياته بارقة أمل، لكنه ما زال يواجه تحديات كبيرة.
ورغم وجود مؤشرات إيجابية مثل انخفاض التضخم وتحسن سعر الصرف، فإن الوضع يحتاج إلى خطط استراتيجية واضحة وإصلاحات هيكلية شاملة لتحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي، ومن هنا، فإن الحكومة السورية الجديدة أمامها فرصة تاريخية لإعادة بناء الاقتصاد، لكنها تحتاج إلى وقت وجهود كبيرة لمواجهة التحديات القائمة، وخاصةً استمرار العقوبات وارتفاع البطالة.