بعد “الانتصار الساحق” لمحور المقاومة على الشعب الفلسطيني في مخيم اليرموك، أصابني ما أصاب معظم السوريين من ألم وأنا أتابع حملة “التعفيش” التي شنتها قوات الشبيحة على ما جناه البشر بالكد والعرق والكسب الحلال طوال أعمارهم. صورة واحدة استوقفتني أكثر من غيرها، يبدو فيها جندي بثيابه العسكرية يحمل خلفه، على دراجته النارية “براداً” غنمه من حربه الكبرى على النساء والأطفال المحاصرين منذ سنين عديدة جنوبي دمشق.
كنت كلما نظرت إلى (برّاده) أرى وجه أمي، ليس لأن وجهه أبيض كوجهها، بل لسبب آخر سرعان ما سوف أكتشفه. فلأمي، ربما كمعظم الأمهات السوريات، حكايتها مع برّاد بيتنا. تلك السنة وبعد أن اتخذت ” أم ياسر” قرارها (الذي كنّا نعرف إخوتي وأبي وأنا، أنها لن تحيد عنه) بشراء براد، بدأت عملياتها المالية الخاصة.
حصّالة أمي المعتادة في فراشها، وهناك كنا جميعاً نعلم أن ثمن البراد يتجمع ليرة فوق أخرى. إضافة للخطة الاستراتيجية والتي هدفها شراء البراد، كانت لدى أمي خطط تكتيكية تخدم هدفها الاستراتيجي. هي مجموعة من الخطط تجتمع أو تأتي تباعاً. من ناحية أساسية كانت تخبئ جزءاً من مصروف بيتنا (تقرره هي) في الفراش، وعلى هامشه تأتي باقي الخطط. تجهد نفسها في العمل بالخياطة، وتشترك بـ “الجمعيات” مع صديقاتها وجاراتها، من أجل إكمال المبلغ والوصول إلى هدفها العظيم، شراء البراد، الذي أصبح التفكير به ملازماً لها في كل أوقاتها.
في تلك الأوقات كانت أمي ستغدو كما لو أنها مديرة لأحد البنوك، لكثرة ما كانت تجدُّ في الحسابات، آخذةً بعين الاعتبار أن عمليتها يجب أن تتم دون أن تثقل على أبي، المتعب أصلا بقوت يومنا وندرة فرص العمل.أعاود النظر إلى صورة البراد على الدراجة النارية فأرى وجه أمي تبتسم وهي تعد كنزها المخبّأ في الفراش، وأرى اتساع ابتسامتها كلما شعرت
حكاية أمي مع برادها كانت ستتكرر كل فترة بحذافيرها تقريباً مع باقي الأجهزة الكهربائية، غسالة الأتوماتيك وشاشة التلفزيون، والعديد من قطع الأثاث التي كان المنزل، الذي هو مملكة أمي، يحتاجها.
باقتراب موعد تحقيق الحلم، أو لحظة نعطيها نحن الأولاد أجر عملنا في العطلة الصيفية، حتى لو كان مبلغاً بسيطاً يكاد لا يُذكر، متمتمةً بكلمات امتنانٍ يقطر منها الحب: “الله يعطيكم العافية ويرضى عليكم يمّا”.
عند اقتراب الموعد وبدء العدّ التنازلي، كانت زيارات أمي للمدينة ستصبح أسبوعيّة. تتفقد محال بيع الأدوات الكهربائية لرؤية البرادات. تدخل وتطرح الأسئلة عن الأسعار وأفضل الأنواع وأحجامها، فهي لم تنفق كل ذاك الجهد كي تشتري براداً من الأنواع الرديئة. لقد كانت قصة مضنية ومتعبة.
حكاية أمي مع برادها كانت ستتكرر كل فترة بحذافيرها تقريباً مع باقي الأجهزة الكهربائية، غسالة الأتوماتيك وشاشة التلفزيون، والعديد من قطع الأثاث التي كان المنزل، الذي هو مملكة أمي، يحتاجها.
كان اليوم الذي وصلت فيه النقود للمبلغ المطلوب، هو يوم عيد حقيقي، وإذا أردت استخدام التعبيرات العسكرية كانت تلك هي ساعة الصفر. فرح أمي كان ينتقل لجميع أفراد المنزل بالعدوى. يومها كانت أمي ستستيقظ باكراً وتتوجه لمحل بيع الأجهزة الكهربائية، وقد تصل المحل قبل أن يفتح. أما نحن المنتظرون، فكنا نعدُّ الدقائق حتى نرى أمي عائدة مع ضيف بيتنا الجديد، الذي سيصبح على الفور مكرماً على نحوٍ خاص وله، بحسب أمي، “كتالوك” للتعامل. وسوف نتلقى نحن الأبناء تعليماتها الصارمة عن كيفية التعامل اللطيف مع برادها.لمدة شهر على الأقل، لن يخلو حديثٌ لأمي مع جاراتها، من محور خاص عن برادنا الجديد وميزاته، ولن يمر يوم دون أن تقوم أمي بمسح وجهه الأبيض، مرة واحدة على الأقل.
أعاود النظر إلى الصورة ثانية، وأرى وجه أمي يبكي. ربما على تعبها سنين طويلة وهي تؤسس منزلنا حجراً حجراً
كنا نشعر أن البرَّاد ابن أمي المدلل، والأخ الأصغر المُحرم علينا لمسه بخشونة. نفتح بابه بلطف، نسترق النظر إلى محتوياته ثم نعود لنغلقه بلطف.
لم أشاهد وجه أمي عندما اقتحم جنود الأسد بلدتنا “النعيمة” في حوران، وقاموا بإحراق منزلنا بكل ما فيه، لكن إخوتي قالوا لي إنها بكت كل يوم على كل قطعة فيه. كما بكت على استشهاد أولاد عمومتي وأبناء إخوتها وأخواتها وأبناء جيراننا وقريتنا، حتى ذبلت عيناها. أما يوم استشهد أخي ابنها فكان لبكائها (نحيبها) ما يجعل الصخر يبكي، كما سيخبرني أبي فيما بعد. يومها كانت أمي وهي تعتب على السماء تلعن الطائرات والمدافع، التي سرقت منها كل شيء.
أعاود النظر إلى الصورة ثانية، وأرى وجه أمي يبكي. ربما على تعبها سنين طويلة وهي تؤسس منزلنا حجراً حجراً. أو وهي تتحدث عن فرحتها التي لم تدُم طويلاً ببيتها وما فيه. لم تكن أمي استثناءً بين السوريات، لكنها كانت أمي التي كسروا قلبها.
على مدى السنوات الأخيرة ظهرت العديد من الصور لجنود الأسد يعفّشون “تحويشات العمر” من منازل الأمهات والآباء السوريين. ويعلم الجميع أن كل امرأة في سوريا تعرف براد منزلها وتلفزيونه وغسالته، كما لو كانوا أبناءها. أما أنا، فكلما شاهدت براداً يحمله أحد اللصوص، فإن مخيلتي ستقوم على الفور بتركيب وجه أمٍ من سوريا يشبه وجه “أم ياسر” على البرّاد، وجه أتعبه الحزن، وقلب مكسور يمضي مسروقاً في حملة التعفيش السوري.