الشعب السوري يُولي الصورَ الشخصية اهتماماً كبيراً. لم يكن ليخلوَ بيتٌ سوري من صورة لأبِ الأسرة، أو لجَدِّها، أو لكليهما. وقلما تُعَلَّق صورةٌ لامرأة، مهما تكن عظيمة وحنونة ومضحية، على جدار. وهذا أسبابُه معروفة..
تسيستْ صورُنا منذ أواخر الخمسينات، فبمجرد ما تعرفنا على زعيم الأمة العربية من المحيط إلى الخليج جمال عبد الناصر، أحببناه، دون أن نجهد أنفسنا بمعرفة أسباب هذا الحب، وتَحَوَّلَ قسمٌ كبير منا إلى ناصريين، وأصبح الرجل الناصري العادي يعلق صورةً واحدة للأسمر جمال عبد الناصر في صدر بيته، وأما الناصري الاستثنائي (الحرَّاقة) فيطرش جدران غرف منزله كلها بصوره الإفرادية، وصوره مع أفراد عائلته، وللعلم فإن حبنا لـ القائد الأسمر استمر إلى ما بعد الانفصال بزمن طويل، والبعض ظلوا صامدين على حبه حتى الآن.
في أواخر الستينات كنا نذهب من إدلب إلى حلب لنشاهد فيلماً سينمائياً، فيلماً لا على التعيين، وكنا نفضل الأفلام المصرية على الأفلام الأجنبية.. فالفيلم المصري، أولاً، عربي اليد والوجه واللسان، أي أنه لا يحتاج إلى ترجمة مكتوبة على الشاشة مثل الأفلام الأجنبية التي تفوتُنا أغلبيةُ حواراتُها لأنها تظهر وتختفي بسرعة، وهو، ثانياً، من بلاد الزعيم الأسمر الذي ما زالت صورُه معلقة في بيوتنا.. وفي الفيلم المصري، ثالثاً، كل ما يلزم لفرجتنا نحن الشبان: نسوان جميلات عاريات الرقاب والصدور والسيقان، حشيش، غناء، قُبَل، هز خصر، زواج، طلاق، مكائد.. وفيه، رابعاً، إسماعيل ياسين الذي يحكي محركاً شفاتيره بطريقة مضحكة.. وأحياناً تنتقل أحداث الفيلم إلى داخل مكتب حكومي، فتظهر صورة جمال عبد الناصر المعلقة في صدر المكتب، وعلى الفور تجتاح صالةَ السينما موجةٌ من التصفيق!
البعثيون الذين جاؤوا على أنقاض عهدي الوحدة والانفصال كانوا لا يكترثون لصور الزعماء، بل إن البعثيين “الشباطيين” كانوا يتحسسون منها، ويحاسِبون أيَّ قائد بعثي يحاول أن يُبرز نفسه على حساب الهيئات القيادية العقائدية حساباً عسيراً، إلى أن جاء انقلاب حافظ الأسد، متزامناً مع رحيل جمال عبد الناصر، فبدأ ما يمكننا أن نسميه، ونحن مرتاحو الضمائر: العصرُ الذهبي لـ صور القائد.
مشت عملية الاهتمام بصور حافظ الأسد مشي السلحفاة من لحظة استيلاء حافظ على الحكم 1970، وحتى أواخر السبعينات حيث احتدم الصراع بينه وبين الطليعة المقاتلة، وأعلن نظام حافظ الحرب الشاملة على تنظيم الإخوان المسلمين. هذه الحرب، تحولت، تلقائياً، وبـ (الـ مَعِيّة)، إلى حملة قمع شاملة للمجتمع السوري برمته، وقُتل خلالها عدد كبير من المواطنين الأبرياء برصاص الأمن والجيش والكتائب البعثية المسلحة، واعْتُقِلَ مئات الألوف من السوريين وألقوا في غياهب السجون بلا محاكمات، وإلى آجال غير مسماة، وفي أوج الشعور بالنصر، التمعت في مخيلة وزير الإعلام أحمد إسكندر أحمد الفكرة الجهنمية القائلة بضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة في مسيرة حكم حافظ الأسد، وهي مرحلة (التأليه): القائد الرمز، القائد الضرورة، القائد المُلْهَم، القائد التاريخي، بطل التشرينين، باني سورية الحديثة.. دواليك حتى سنة 2000 حيث اكتسب آخر لقب له وهو القائد الخالد.
الناصريون كانوا يعلقون صور قائدهم في البيوت، عن طيب خاطر، وأما الشعب السوري فقد كان يتعامل مع صور الأسد اضطراراً، ومن مبدأ (الغلبان بياكل مع عشيق امرأته).. ذلك أن الطغمة الفاشستية الحاكمة في سورية انطلقت، مع اقتراب نهاية أزمة الإخوان، إلى المطابع، وأوصت على ملايين الصور لحافظ الأسد، بوضعيات مختلفة، ثم أخذت تطرش هذه الصور في كل مكان، وأصدرت القيادات العليا أوامرها إلى من كل من يهمه الأمر في الحزب والدولة، بأن تحتل صور حافظ موقع الصدارة في الدوائر، والمراكز الثقافية، والمنظمات الشعبية، والمسارح، وملاعب الرياضة، ومع ظهور الأزمات الاقتصادية التي ألقت بثقلها على الشعب السوري، أصبح الشغل الشاغل للطغمة الإعلامية هو تمجيد الأسد، وأصبح تمجيده شعاراً رئيساً لمرحلة جديدة يمكن تلخيصها بأنه: كلما زاد القمع والفقر والجوع، وانخفضت القوة الشرائية للعملة السورية.. يجب أن تتصاعد عملية تأليه القائد..
أخيراً: لا يظنن أحد أن صور حافظ (وصور وريثه من بعده) ينتهي مفعولها وتهمل بعد انتهاء المناسبة التي علقت أو حملت خلالها، بل إن الطغمة الأمنية تكفلت لتقديسها وحمايتها من أي عبث، وياما اقتيد أناس إلى فروع الأمن وعذبوا حتى الموت بتهمة العبث بصور القائد، أو إهانتها، أو تشويهها.