بدا واضحاً منذ أن تمّ الاتفاق في أستانا على ما أُطلق عليه “اتفاق خفض التصعيد والتوتر” أن الصراع السوري يسير نحو مآلات جديدة، هذه المآلات وُلدت في خضمّ التدخل الدولي والإقليمي المباشر في هذا الصراع.
المآلات تعني في نهاية الأمر إسدال الستار على مجريات صراع عسكري بين النظام الأسدي وحلفائه مع الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة السورية، وهذا يعني إغلاق هذا الملف، ولكن، لا يعني انتهاء الثورة السورية، لأن الثورة أساساً لم تبدأ مسلحةً، ولم يرد ثوارها الشباب أن تنحو منحى التسلح.
والأهم أن الثورة السورية أتت لتصحيح مسارٍ تاريخي، أغلقه انسداد أفقٍ نتيجة انغلاق النظام على ذاته الاستبدادية، وامتناعه عن منح تطور القوى الاجتماعية في البلاد حقّ التعبير عن مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الثورة السورية لا تزال ضرورة تاريخية بحاجة لإزاحة الإنغلاق من أمام قوى الشعب السوري التي تريد تغيير بناء الدولة ووظيفتها بما يتلاءم مع حاجات التطور الضاغطة على قواها.
لذلك فإن خفض التصعيد والتوتر ومآلاته السياسية ستقود إلى تقسيم الجغرافية السورية إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية لقوى موجودة على الأرض، هذا التقسيم يندرج تحت قاعدة تفريغ كل منطقة نفوذ من كل قوى تكون خارج هذا الاتفاق غير المعلن دولياً، أي ستكون هناك عملية تذويب كامل لكل الفصائل المحلية أو الميليشيات التي دخلت البلاد نتيجة الصراع العسكري، عملية التذويب هذه ستكون من خلال قبول الفصائل بمصالحات وهي في مناطقها بضمانات غير متينة من روسيا، أو الانتقال إلى الشمال حيث تنتقل الرعاية إلى الضامن التركي الذي تتواجد قواته شمال حلب وفي إدلب وشمال حماة.
إذاً يمكن القول أن سورية تتجه نحو حلٍ سياسي لا منتصر فيه سوى الضامنين، فالنظام الأسدي ليس منتصراً بالمطلق رغم كل الجعجعة الإعلامية، فالانتصارات لم تصنعها قواته المهزومة قبلاً أمام فصائل الثورة، بل أن التدخل الروسي بأقصى طاقته النارية التدميرية والقاتلة هو من أرغم فصائل المعارضة المسلحة غير المتحدة أصلاً على قبول الشروط الروسية في ظلّ تراجع صريح من حلفاء الأمس الإقليميين والدوليين عن تقديم أي دعم للثورة.
إذاً يمكن القول أن سورية تتجه نحو حلٍ سياسي لا منتصر فيه سوى الضامنين، فالنظام الأسدي ليس منتصراً بالمطلق رغم كل الجعجعة الإعلامية، فالانتصارات لم تصنعها قواته المهزومة قبلاً أمام فصائل الثورة، بل أن التدخل الروسي بأقصى طاقته النارية التدميرية والقاتلة هو من أرغم فصائل المعارضة المسلحة غير المتحدة أصلاً على قبول الشروط الروسية في ظلّ تراجع صريح من حلفاء الأمس الإقليميين والدوليين عن تقديم أي دعم للثورة.
وباعتبار أن الثورة السورية ضرورة، هذا يعني أن أسلوب العمل المسلح استنفذ وظيفته الإقليمية والداخلية من خلال منع القوى الكبرى لانتصار أي طرفٍ من طرفي الصراع. ولكن استنفاذ الأعمال المسلحة لا يعني بالمطلق استنفاذ الثورة ووظيفتها التاريخية، فالثورة أتت لتفتح بوابات التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي أمام قوى حية في الواقع السوري، بلغت درجة تطور بناها حدّاً لا يقبل بعرقلة الاستبداد أو بمصادرة حقوق الشعب السياسية وبمصالحه الاقتصادية.
إن إسدال الستار على العمل المسلح من كافة الجهات سيفتح بالضرورة أبواب العمل السياسي السلمي، وهذا يعني عودة إلى المطالب الرئيسية التي قامت عليها المظاهرات الأولى للثورة السورية.
إن الممكن في هذه الحال هو بناء تجمع للقوى الوطنية الديمقراطية في إطار تيار واسع، يضع نصب عينيه هدف بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تيار يتمّ بناؤه على أرضيةٍ وطنيةٍ جادة، مهمتها إعادة بناء سورية كدولة مستقلة تنهض بقواها الذاتية بعملية بناء الاقتصاد الوطني المدمر، وإعادة الهوية الوطنية للثقافة السورية، وإجراء المصالحة الوطنية من خلال تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية بحق كل مرتكبي الجرائم ضد الشعب السوري. إن التمسك بالحزبوية الضيقة أو الصبغة الأيديولوجية سيعرقل من بناء التيار الوطني الديمقراطي الذي ينبغي أن يلعب دور رافعة عمل وطني تحرري ديمقراطي في هذه المرحلة التاريخية، وهنا يمكن اشتقاق مفهوم الكتلة التاريخية من ضمن بنية المجتمع السوري بمكوناته المختلفة، أما الحديث عن بديل آخر يعتمد على مفهوم حرب العصابات فهو بديل غير صالح في هذه المرحلة.
إن هذا البديل المتخيل لدى بعض أصحاب النوايا الطيبة ولدى أصحاب الأجندات كان ممكناً كأسلوب عملٍ منذ بداية الثورة، أما الآن وفي ظلّ وجود قوى أجنبية عديدة على أرض البلاد تمتلك قدرات كبيرة، وفي ظل تمزق فصائلي كبير فلا يمكن اعتماد هذا الأسلوب في ظل هذه الظروف، بل يمكن القول أنه لا توجد أسس واقعية تقبل بحمل هذا البديل في ظل ما وصل إليه الشعب السوري من دمار وانهاك ولجوء على المستوى العالمي ونزوح داخلي مرهق.
هذا البديل لن يجد قوى داخلية حقيقية أو إقليمية أو دولية تتبناه، أو تحرّض عليه أو تساعد في تنفيذه، ولذلك فالجنوح نحو حلّ الصراع العسكري بصورته السابقة المدمرة يفتح الباب نحو تطور لاحق للقوى السياسية المعنية ببناء دولة المواطنة والحريات.
هذه القوى ستلعب دوراً في تغيير معادلات الصراع لمصلحة الشعب السوري، لأنها ببساطة ستولد من معطف الحل السياسي الدولي الذي سيضع قواعد اللعبة السياسية في البلاد، أي من صيرورة جديدة تنفي الصيرورة السابقة التي خدمت كل المتصارعين وأضرّت بالشعب السوري وحده.