قبل أن يلجأ الصيدلي الأربعيني محمد إبراهيم لخدمات الصنايعية السوريون كان قد عانى من مشكلات كبيرة في أعمال الكهرباء في صيدليته الصغيرة، في جنوبي القاهرة، فاقَمها استغلال وسوء تصرف الكثير من الصنايعية المصريين، الذين التهموا الكثير من ماله دون تقديم إصلاحات سليمة ودائمة.
وقبل عدة أسابيع خصّص إبراهيم مبلغاً من المال لأعمال الكهرباء في صيدليته، بانتظار حضور صنايعي مصري اتفق معه مراراً للبدء في الإصلاحات. لكن الصنايعي المصري أجّل حضوره مرات عدة، ما دفع إبراهيم للاستماع لقريب له نصحه بالتعاون مع صنايعي سوري.
ويقول إبراهيم من خلف نظارته الطبية السوداء ذات الخط الأحمر لـ “عربي بوست” إنّ “الكهربائي السوري حل كافة مشاكل الصيدلية واستعان بمشتريات جديدة أقل، وأنجز المهمة بجودة أفضل وسعر أقل، والأهم بمواعيد أدق”.
وكانت كشافات الإضاءة في صيدلية الشاب الملتحي قد أصابها العطب، ما أثَّر على كمية الإضاءة في الصيدلية التي افتُتحت في العام 2002.
وظنَّ إبراهيم، البالغ 40 عاماً، أنّه سيحتاج لشراء ثلاث كشافات جديدة وبعضَ الأسلاك والمستلزمات الأخرى لإصلاح صيدليته التي تتراصّ علب الأدوية فيها، في نظام دقيق، في واجهات زجاجية بنفسجية اللون.
لكن نذير، السوري الذي استعان به إبراهيم، لم يجد سبباً لاستبدال هذه الكشافات، كما سبق وقال أكثر من صنايعي مصري.
ويسترجع إبراهيم: “قال لي الكهربائي السوري إن الكشافات سليمة، وتحتاج فقط للتنظيف وليس الاستبدال. نظَّفها بالماء والصابون وعادت كالجديدة”، فيما كان يشير للكشاف الذي يضيء الصيدلية بشكل كافٍ.
وأشار إلى أنه استخدم جزءاً صغيراً من المبلغ الذي خصَّصه لشراء المستلزمات الجديدة، كما أن الكهربائي السوري تلقَّى أجراً أقل.
وتابع أنَّ “العمالة السورية أسعارها متوسطة، ولكن كفاءتهم والخدمة الذي يقدمونها بالنسبة للعمالة المصرية أعلى بكثير… لذا يمكن القول إن أسعارهم رخيصة لأنهم يقدمون خدمة أعلى بكثير بالمقارنة بالمصريين”.
واستعان إبراهيم بنذير مرة أخرى في منزله ومنازل أقاربه، قبل أن يستعين به أهل المنطقة الشعبية البسيطة عدة مرات.
ولفت إبراهيم مبتسماً: “أصبحت أراه كثيراً في المنطقة. لقد أصبح صديق الجميع”.
ويعتقد إبراهيم أن خبرات العمالة السورية السابقة “لا تتوافق مع متطلبات السوق المصري»، لكنه استرجع «هم أذكياء جداً ومع الوقت استطاعوا أن يتقنوا ويتعلَّموا مِهناً كثيرة ويلبوا احتياجات السوق المصري بإتقان”.
أقدِّم أفضل ما عندي
وتتركز المهن التي يعمل فيها السوريون في مصر في المطاعم بكافة أنواعها وصناعة الحلويات، والمنسوجات وصناعة الأثاث والإلكترونيات، والمقاهي والكافيهات والعطور والعطارة والمخبوزات في كافة أرجاء البلاد.
وهناك تجمع كبير في حي 6 أكتوبر غرب القاهرة، يضم شارعاً يسمى شارع السوريين، ويضم عدة مقاه ومطاعم يديرها سوريون، وتلقى رواجاً كبيراً من المصريين.
وقال نذير الكهربائي، وهو أب لخمسة أبناء لـ “عربي بوست” فيما كان يصلح كشافاً كهربائياً في منزل خالة الصيدلي إبراهيم: “لست ساحراً ولست بثلاث أيدٍ، لكنني ببساطة أحاول أن أقدم أفضل ما عندي”.
وتابع الرجل الخمسيني النازح لمصر من ريف دمشق قبل عدة سنوات: “لدي ثلاث قواعد رئيسية: القاعدة الأولى الالتزام بالموعد. القاعدة الثانية إتقان العمل ونظافته، وهما شيئان مهمان جداً، ويفتقدهما بعض المصريين. القاعدة الثالثة أنني لا أختلف أبداً مع أي زبون بخصوص السعر”.
وأضاف أن المعاملة الطيبة هي رأسماله الحقيقي، فهو يحرص دائماً على الابتسامة والتعامل الحسن وإرضاء الزبون، هذه أمور يفتقدها المصريون في بعض صنايعية البلد.
وتابع: “أسعى لكسب ثقة زبائني بجودة عالية وسعر معقول ليستمر رزقي من طرفهم. لا أحب أن أذهب لزبون مرة واحدة وأتقاضى مبلغاً كبيراً ثم لا يستعين بي أبداً مرة أخرى”.
ومنذ بدء النزاع في سوريا في مارس/آذار 2011، باتت مصر موطناً لآلاف السوريين بسبب الثقافة المشتركة والمناخ الآمن للإقامة والعمل دون تراخيص، فضلاً عن التسهيلات التي قدمتها الحكومة المصرية التي شملت تخفيض مصروفات الإقامة والدراسة، والسماح بتسجيل أبناء السوريين في المدارس الحكومية، ومعاملتهم مثل الطلاب المصريين.
نجار وكهربائي وفني دش
أما المهندس محمد هشام، البالغ 65 عاماً، فقد استعان بالعمالة السورية مرتين، وصفهما بالتجربة “الرائعة”.
واستخدم هشام نجاراً سورياً لتصليح النجارة في شقة استأجرها ابنه من أجل زواجه قبل ثلاث سنوات.
وقال الأب هشام: “ابني استأجر شقة لزواجه، لكن كافة نوافذها وأبوابها كانت في حالة سيئة وتحتاج للإصلاح. الأخشاب والمفاصل والأسلاك، كل شيء”.
وتابع: “استعنّا بنجار سوري يدعى عماد، جاء وبأقل الخامات أصلح كل شيء في أسرع وقت وبأقل ثمن”.
وأشار هشام إلى أنَّ عماد السوري كان ملتزماً جداً في مواعيده، عكس الصنايعية المصريين.
وأوضح: “كان يأتي في موعده بلا تأخير، ويحاول توفير نفقات شراء بعض المستلزمات، ويحاول إخراج الأمور بأفضل شكل”.
وتكلّف إصلاح النجارة في شقة ابن هشام على يد النجار السوري نصف المبلغ الذي حدَّده نجار مصري، كانت الأسرة ستستعين به.
وأكّد هشام أنّ النجارة السيئة في شقة ابنه أصبحت مدعاة للفخر، بعد أن كانت ستدفع ابنه لعدم تأجير الشقة.
التجربة “الرائعة” مع عماد السوري دفعت أسرة هشام للاستعانة بكهربائي سوري لإنجاز أعمال الكهرباء في شقة ابنهم الثاني.
وقال هشام: “بعد ثلاث سنوات استعنا بكهربائي سوري أيضاً لتأسيس الكهرباء في شقة ابني الآخر، وقد أتم عمله على أكمل وجه”.
وأوضح أنَّ “الكهربائي السوري أسَّس الكهرباء في الشقة بشكل احترافي للغاية، وهو ما حاز رضا وإعجاب الجميع”.
وأوضح أن الكثير من أصدقاء ابنه أصبحوا يتعاملون مع الكهربائي السوري، بعد أن شاهدوا حُسن صنعة يده.
وأكّد أن “الفكرة ليست مرتبطة إطلاقاً بأنها عمالة رخيصة. الفكرة مرتبطة بجودة الخدمة والالتزام بالمواعيد”.
وأشار إلى أن جهاز استقبال القمر الصناعي (الدش) الخاص به تعرّض لعطل قبل بداية كأس العالم بعدة أيام، ما اضطره لتحديد موعد مع فني إصلاح الدش الذي يتعامل معه، والذي أعطاه عدة مواعيد وأبداً لم يحضر.
وقال هشام: “صديقي أعطاني رقم فني دش سوري. شاب مهذب للغاية جاء في موعده وأصلح العطل، وفي النهاية تقاضى نصف الأجر”.
وتابع ضاحكاً وهو يشير إلى هاتفه المحمول “ما إن انتهى من عمله حتى قمت بمسح رقم فني الدش المصري من هاتفي”.
وتقدر الحكومة المصرية عدد السوريين في مصر بنحو نصف مليون سوري، لكن أعداد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مصر لا تتجاوز 126,000 شخص.
ويأتي 57% من لاجئي العالم من ثلاث دول فقط: سوريا وأفغانستان وجنوب السودان.
وهناك 6,3 مليون لاجئ سوري في العالم.
جودة أفضل وسعر أقل
في محافظة الإسكندرية الساحلية على البحر المتوسط (200 كيلو متر شمال القاهرة)، تحكي مروة أحمد عن تجربتها مع العمالة السورية، وتعتبرها أفضل من نظيرتها المصرية.
تقول مروة “إنها تعاملت مع عامل سوري لتركيب الستائر بعد ترشيح من صديق، وكانت مواعيده منضبطة وكذلك عمله.
وتضيف مروة التي تسكن في حي سموحة، وهو موطن آلاف الأسر المنتمية للطبقة المتوسطة، أنّ العامل المصري لا يلتزم بمواعيد في الحضور أو تسليم الشغل، على عكس ما وجدت من السوري.
وترى الشابة الإسكندرانية، أن وجود العمالة السورية في السوق لن يضر بنظيرتها المصرية، بل بالعكس سيزيد من المنافسة بينهما، ويدفع المصريين لتحسين جودة خدماتهم، ضاربة مثلاً بالمنافسة بين التاكسي وتطبيقات نقل الركاب بالتليفون (أوبر وكريم)”.
أما المراسلة التلفزيونية آية راضي، فلها تجربة أخرى مع العمالة السورية، وأنقذتها قبل الظهور على الهواء على شاشة التلفاز.
تقول آية إنها تعرفت على أحد مصففي الشعر السوريين قبل أربع سنوات، عندما كان يعمل في أحد المحلات في حي الدقي في غرب العاصمة.
آية طلبته لتصفيف شعرها في مكان عملها، وجاء وانتظرها نحو ساعتين قبل إنهائها عملها، رغم أنها أعطته موعداً في التاسعة، ولم تلتزم بالموعد.
وتابعت المراسلة الشابة: “انتظرني للحادية عشرة مساء، وأنهى عمله وحصل على مقابل مادي بسيط جداً، نفس القيمة التي يحصل عليها إذا جاء إليه الزبون في مكان عمله.
وحاولت أن أعطيه مقابلاً لأخذ وسيلة مواصلات من العجوزة إلى حي 6 أكتوبر (على بعد حوالي 35 كلم) لأن الوقت كان متأخراً، لكنه رفض، وقال لي إنه أخذ أجراً مقابل عمله فقط، ولن يقبل أي شيء آخر”.
وتتحدث آية بفخر عن محمد، السوري الذي انتقل للعمل في kriss (أحد أشهر صالونات تصفيف الشعر والتجميل في مصر) وأصبحت زبونة دائمة له.
ترى آية أن العمالة السورية تستحق ما وصلت إليه «وجدوا فرصة وأثبتوا أنفسهم»، مضيفة “أصبحت أرشحهم بقوة الآن لأصدقائي”.
العمل في السوق السوداء
المحللة الاقتصادية ريم سليم تقسم السوريين لفئتين، الأولى تمتلك رأس المال وتعمل في منشآتها وشركاتها، وهنا يكون عملهم قانونياً، والفئة الثانية يقدمون خدماتهم للمستهلكين بشكل فردي، ويعتمدون في تسويقها على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وبالتالي فهم ينضمون لعمالة القطاع غير الرسمي.
وفي أبريل/نيسان الفائت، قدمت مجموعة من رجال الأعمال السوريين للحكومة المصرية مشروعاً لإنشاء مدينة صناعة سورية في مصر، تجمع ما بين العمالة المصرية والسورية.
وأوضح مصدر في وزارة التجارة والصناعة المصرية لـ “عربي بوست”، أنّ “المنطقة الصناعية السورية التي تتم دراستها تضم عدداً من المصانع المتخصصة في صناعات الغزل والنسيج والملابس الجاهزة، وهي الصناعات التي يتميز المستثمرون السوريون فيها بشكل كبير”.
وأشار المصدر إلى أن “الوزارة تتجه لإعلان الموافقة على الفكرة في وقت قريب”، لافتاً إلى أنها ستكون في منطقة 6 أكتوبر على الأغلب، لتكون قريبة من تجمعات السوريين في مصر.
وأوضحت المحللة أنّ القطاع غير الرسمي يمثل 40% من الاقتصاد المصري، طبقاً لوزارة التخطيط.
وتابعت أن وجود العمالة السورية يؤدي إلى زيادة في عرض (عدد) العمال، بمعنى زيادة عدد الأفراد ممن هم في سن العمل، وهو ما يتيح لأصحاب العمل أن يقدموا أجوراً منخفضة.
وأشارت إلى أنّ ذلك يحدث في نطاق معين وقطاعات معينة كالحرف التي يتميز السوريون بالعمل فيها.
منافسة غير كاملة وحافز قوي
ويخشى كثيرون أن تؤدي وفرة العمالة السورية إلى خلق حالة منافسة غير شريفة مع العمالة المصرية.
لكن الخبيرة الاقتصادية قالت إنها ليست منافسة كاملة، هي منافسة ضيقة النطاق، في حدود بعض الحرف التي يركز عليها ويتميز بها السوريون.
وأشارت سليم إلى أن السوريين يقدمون إنتاجاً ذاً طابع مميز جديداً على السوق المصري، في الأكلات والأثاث الملابس، علاوة على ذلك فإنهم يستحوذون على ثقة المستهلك، ناهيك عن أسعارهم المنخفضة نسبياً.
واعتبرت أن ذلك في النهاية يمثل حافزاً للمنتجين المصريين أن يميزوا خدماتهم بكفاءة أعلى وسعر معقول. وعليه، فإن المنافسة لصالح المستهلك ولصالح السوق المصري ليصبح محل لمنتجات أعلى كفاءة وأقل سعراً”.
وتابعت أنّ “العامل السوري رغم كفاءته فإنه قد يتعرض في أي لحظة لمشكلة أمنية، أو لا ينجح في الحصول على تجديد لتصريح إقامته؛ ومن ثم فهو قد يفتقد عنصر الاستقرار الذي يبحث عنه صاحب العمل”.
وأكّدت أنّ «هناك وظائف وصناعات لا ينافس فيها السوريون، وهي غالباً الوظائف التي تحتاج إلى مؤهلات عليا»، وهو ما قالت إن السوريين في مصر يفتفدونه.
أما الصيدلاني محمد الذي عانى كثيراً مع عمال مصريين لإصلاح كهرباء صيدليته، “فلا يرى العمالة المصرية ضحية منافسة”.
وقال إبراهيم: “العمالة المصرية عمالة غير ملتزمة بالمواعيد وتقدم خدمة سيئة جداً في مقابل مادي مرتفع”.
وتابع متهكماً: “في أحيان كثيرة أضطر إلى أن أحضر عاملاً آخر لكي يصلح المشاكل التي سبَّبها العامل الذي سبقه… فالعمالة المصرية لا تطور من نفسها ولا تلتزم بمواعيد”، قبل أن ينهي حديثه، لارتباطه بمواعيد مع متعهد تسليم الأدوية الذي حضر متأخراً بدوره نحو نصف ساعة.