يتداول مؤيدو الأسد فيديو (منزوع الصوت) يقولون إنه لعمليات فبركة تصوير ضحايا يقوم بها سكان الغوطة ما يثبت أنه ليس هناك من ضحايا، وإن هؤلاء الإرهابيون في الغوطة إنما يفعلون ذلك ليتهموا نظام الأسد بجرائم لم يرتكبها. طبعاً ليس مهماً لهؤلاء وجود “لوغو” في زاوية الفيديو تظهر فيه كلمة “غزة” باللغة الانكليزية.
شخصياً لم أستطع التوصل لأصل الفيديو (أنا الضعيف تقنياً) لكن الاستنتاج الأرجح أنه لعمل تمثيلي فعلي وليس مفبركاً، نزع عنه الصوت أحد عديمي الضمير، كي يسوقه لزبائن مرضى.
لا يضير نفس هؤلاء الذين يتداولون هذا الفيديو، أنهم وفي ذات اليوم يدعون جيش الأسد إلى متابعة قصف الغوطة بالطائرات وراجمات الصواريخ، بل ويذهب العديد منهم أبعد من ذلك حين يبدون فرحتهم ويتغنون بشاعرية حول الأنوار الجميلة التي تشعُّ من حرائق غوطة دمشق.
إذاً، عبر نشر الفيديو أراد هؤلاء القول أن لا ضحايا، لكن للمفارقة فإنهم من ناحية ثانية، يطالبون جيش أسدهم وحلفاءه أن يحرقوا الغوطة بمن فيها من رجال ونساء وأطفال باعتبار حتى هؤلاء الأطفال قد رضعوا حليب الإرهاب من أمهاتهم وسيكون بقاءهم على قيد الحياة خطراً على مستقبل سوريا.
ثلاثة زوايا للنظر يتبعها هؤلاء. واحدة منها كانت تكفي للحكم على صاحبها بأنه مريض في إنسانيته وأخلاقه، لكن “عشاق الجزمة العسكرية” ذهبوا في هذا الفصام ثلاثي الأبعاد (قد يكون أكثر من ثلاثي وأنا لم ألحظ ذلك بعد) إلى نهاياته، ما يدعو للوقوف أما حالة من الكراهية والعطب الأخلاقي غير مسبوقة.
إذا كانت كل الصور التي تخرج من الغوطة ملفقة فأين تذهب حمم الطائرات التي تصفقون لها وهي ذاهبة وغادية تفرغ حمولاتها فوق غوطتنا؟ (نعم غوطتنا. غوطة السوريين، وبالتأكيد ليست غوطتكم).
طفلة الغوطة “سندس” التي ظهرت أمام الكاميرا من أحد الملاجئ وهي تصرخ في وجه العالم كي ينقذها وباقي الأطفال والنساء (شاهد الفيديو بترجماته المختلفة حول العالم حتى هذه اللحظة أكثر من خمسة ملايين من البشر).، طفلة الغوطة تلك بحسب هؤلاء الفصاميين، هي ممثلة وضع أحدهم الدموع في عينيها وعلمها كيف تتحدث بتلك الطريقة الحارقة والكافية لجعل البشرية بكاملها تشعر بالعار.
أحد المراسلين التلفزيونيين الذي ظهر في فيديو آخر، وقد قُصِف الملجأ الذي كان يتحصن به مع آخرين، وهو يبكي لإصابة والد صديقه المصور في رأسه، هو مُمثل آخر طاب له المزاج العالي لشاب من الغوطة، أن يشارك في تمثيلية الموت تلك بهدف تشويه براءة نظام الأسد وجيشه النبيل. بل ويمكن الذهاب مع هؤلاء أبعد من ذلك، واعتبار صديقهم وزير الخارجية الروسي لافروف ممثلاً أيضاً حين يتحدث عن شروطه لوقف القصف عن غوطة دمشق التي لا تقصف بحسب تلك الكائنات المُتعضِّية.
“الأسد للأبد” هتف هؤلاء منذ عقود، لكن قبل سبع سنوات خرج السوريون ليردوا عليهم أن لا أبد بعد اليوم في سوريا سوى للحرية. أبد الحرية بصفتها القيمة الملازمة للوعي البشري الحر وهتف السوريون في أجمل أيامهم تلك الفترة : “حرية للأبد”، حيث لا أبد للمجرم الابن ومن قبله أبيه المؤسس الأول للجريمة والمقتلة السورية.
ولكن هل هؤلاء هم السوريون حقاً؟ وهل هذا هو المشهد الأخلاقي السوري العام؟ ببساطة وبدون أي تسرع يمكن الإجابة بلا، “لا” كبيرة وقوية وواضحة. فقلوب السوريين بكت جميعها وهي تتابع صورة أبٍ من الغوطة يضمُّ جثمان ابنه الذي قتلته طائرات الأسد ويودعه بحرقةِ فقد الأبناء ممزقين. يضمه إلى صدره طويلاً وكأنه لا يريد تركه يمضي إلى قبره الصغير. قلوب السوريين بكت مع دموع طفلة الغوطة الجميلة “سندس” وهي تنشج وتصرخ في وجه العالم: “نحنا بدنا الأمان يا عالم”. بل وهناك دمشقيون تحت خطر القذائف أيضاً، كانوا يبكون غوطتهم. هؤلاء هم السوريون الذين هتفوا يوماً ما في وجه الأبد الأسدي “حرية للأبد”، ولكن القذائف ومنعرجات تطور الحدث السوري ضيّعت قوّة أصواتهم.
ملايين السوريين اليوم يتمنون لو يضمون “سندس” إلى قلوبهم ليُذهبوا عنها ذاك الخوف الذي يشعّ من عينيها، ويربّتوا على كتف أبٍ كان يسأل عن “برّادٍ” يتّسع لجثث زوجته وأطفاله الخمسة الذين قتلتهم راجمات صواريخ الأسد التي لم تقصف الغوطة، حسب عديمي الضمير مرضى الفصام الأخلاقي ثلاثي الأبعاد.