مقال بقلم بيان ريحان، وهي رئيسة مكتب المرأة في لجنة التنسيق المحلية بمدينة الغوطة الشرقية في دوما. كما أنها ناشطة وشاركت في انتفاضة سوريا منذ بدايتها كتبت:
اليوم كان أول يوم لي في القبو. هبطت بعد أن حطمت القذيفة منزلنا ليلاً. وفي أقل من دقيقتين، عبرت عائلتي وأنا مسافة 150 متراً إلى أقرب مأوى مؤقت للنساء والأطفال. لم يكن لدينا الوقت لأخاذ أي متاع معنا. أردنا فقط الهروب من نار الجحيم التي تمطر علينا.
وهذا المصير لم أتلقاه وحدي فقط، فمعظم سكان بلدتي في دوما بالغوطة الشرقية ذهبوا تحت الأرض. القبو يوفر لنا ملجأ مؤقتا من القصف المستمر منذ أيام من قبل النظام السوري، والذي أودى بحياة أكثر من 500 شخص.
وتحت الأرض، كنا موضع ترحيب من قبل الناس الذين وصلوا إلى القبو قبلنا. لم أستطع الالتفاف برأسي لرؤية كامل المشهد الذي أمامي. أجلس مقابل الجدار، أراقب وجوه الناس الخائفة. وذكرني المشهد بشيء واحد فقط: زنزانتي في الفرع 215 من مركز احتجاز كفرسوسة في دمشق، حيث استخدم سجين النظام أساليب التعذيب التي كادت أن تقتلني.
ذهبت في النوم فجأة- لم يتيح لي الفرصة النوم خلال الـ 72 ساعة الماضية، باستثناء بضع لحظات مسروقة أغمضت فيها عيناي. ولكن صوت القنابل القريبة أيقظني بعد فترة وجيزة.
وبدأت أتجول في القبو، محاولة التعرف على كل من لجأ إلى هنا. كانوا جميعا ربات بيوت وأطفال ليس لديهم فكرة حول ما يحدث بالخارج. كانوا يرغبون في وقف القصف فقط ليتمكنوا من التمسك بالحياة فوق الأرض والعثور على الطعام.
مكثت في القبو لمدة ست ساعات بدأت بعدها أشعر بالاختناق. والرطوبة جعلت نفسي يضيق شيئاً فشيئاً، وفي الحقيقة فقداني للاتصال بالعالم الخارجي كثف الشعور لدي.
وبدأ صراخ الأطفال يتردد في الجدران، إذ كانت النساء حينها قد تخلين عن إبقاء أطفالهن تحت السيطرة. وأخذت كل منهما ركناً للطهي، ولم يكن لديهن أخشاب لإشعال النار لذلك لجأت النساء إلى تمزيق قصاصات من ملابسهن الخاصة واستخدامها لإشعال النار.
بدأت أشعر بوخز الجوع عندما تجمعت ست نساء من عائلتي لوضع خطة لتأمين وجبة اليوم. وقررنا أن أفضل رهان سيكون لقاء أقاربنا الذكور في مأوى الرجال.
سارعنا أنا وابنة عمي معاً إلى ملجأ الرجال وسط القنابل وأعمدة الدخان الأسود، ومازحتها في نصف الطريق قائلة “لديك 45 ثانية لعبور طريق الموت.”
حظينا في ملجأ الرجال باستقبال الأبطال، وحصلنا على طعام رأينا في وضعنا القائم أنه يُشكل “وجبة ملوكية”، فالبرغل الذي بين أيدينا من شأنه أن يأمن طعام ست نساء وخمسة أطفال من عائلتناً ليوم كامل.
كانت بضع لقم من الطعام كافية لإشعارنا بأننا متخمون بالانتصار، مع أزيز الطائرات الحربية فوقنا. وشعرنا بأننا حققنا بعض النصر على سوء التغذية المفروضة علينا في الغوطة الشرقية المحاصرة.
وفي عودتنا إلى قبو النساء، كان صراخ الأطفال كالصاعقة، وكانت الأمهات ينظفن أطفالهن أو يحاولن تهدئتهم.
أخذت على عاتقي لعب دور مسؤولة التسلية للأطفال من أجل إبقائهم هادئين، وجمعتهم حولي على شكل دائرة، وبدأت بسرد القصص عليهم. وكانت أول قصة بعنوان “ذهبت مع الريح” أردت منها أن تكون مصدر إلهام للأطفال لشجاعة البطلة سكارليت، وكيف دخلت الحرب وخرجت منها بأمان. ورويت لهم قصصا عن كيفية إعادة بناء حياتها من أنقاض الحرب الأهلية الأمريكية.
عيونهم بدأت تتألق مع الفضول عندما بدأت في التحدث إليهم عن المصير الحزين لقصة حب سكارليت. وقدمت النساء لي فنجانا من القهوة كعربون شكر لرعاية أطفالهن، ولو لمدة ساعة فقط.
عندما عدت للجلوس في مكاني داخل القبو، وبعدما ساد الهدوء في المكان، أخذت أتأمل النساء والأطفال الذين يتكدسون فوق بعضهم من أجل إفساح المجال ليتسع القبو لأكبر عدد ممكن من اللاجئين، فكرت حينها مرة أخرى في زنزانتي السابقة. كان المشهد مشابهاً للغاية، والتعذيب الذي ألحقه النظام في سجونه وساحات المعارك هو نفسه تقريباً.
وفي خضم الهدوء النسبي في الليل، عاد اليأس مرة أخرى إلى عقلي ليضعني في اجتماعي الأخير مع الأمم المتحدة كرئيسة لمكتب المرأة في المدينة. حيث وصلوا إلى دوما في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مع حوالي أربعة آلاف سلة غذائية لمدينة تقطنها 28 ألف أسرة محتاجة. أذكر جيداً ماذا قلت لهم، وهو موقفي الذي ما زلت متمسكة به.
تحدث قادة المجتمع المدني في المدينة، في نوفمبر/تشرين الثاني، إلى أعضاء الوفد، إذ قلت لأحدهم إن الكميات التي قدموها لنا لم تكن كافية أبدا، وأضفت أن قافلة المساعدات تحمل معها رسالة مفادها أن سكان دوما “سيهلكون” حتى يتناسب عددهم الباقي مع حجم المساعدات القليلة التي تقدمها الأمم المتحدة.
وإذا كانت القافلة ستصل مرة أخرى اليوم، أود أن أذكرهم بما قلته، وأقول لهم إنهم شركاء في الجرائم التي يرتكبها النظام السوري وروسيا.
وأود أن أخبر المجتمع الدولي بأنه إذا قرر مع بشار الأسد قتلنا جميعا، فرجاء أرحمونا واقتلونا بسرعة، لأننا تعبنا من انتظار دورنا في صف الموت. وأود أيضاً أن أخبر المجتمع الدولي بإحراق مواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة فيما يتعلق بحماية البشر وحقوقهم، ومن أهمها “الحق في الحياة.”
وبالنسبة لأولئك في جميع أنحاء العالم الذين وضعوا الإنسانية أولاً، وحاولوا وقف قتل الأبرياء عن طريق جمع الأموال والمظاهرات تضامناً مع الغوطة الشرقية… أنا أقول شكراً لكم.