عمرها من عمر الثورة السورية تقريبا أو أقل.. قالتها بكل قوة وأنفة وعناد.. “ما بدي أكون بنت بشار الأسد”… قالتها في وجه أبيها الذي طلب منها أن تردد أنها بنت الرئيس السوري… حدث ذلك في بث مباشر لقناة “الإخبارية” السورية الخميس الماضي عندما كانت الكاميرا تستقبل جموع الناس المنهكين وهي تغادر الغوطة الشرقية عبر ممر حمورية.
بين سؤال المذيع أحدَ المواطنين عما يقال من أنهم كانوا “معهم” أي “الإرهابيين”، ورد الرجل الأشعث الأغبر بأنهم إنما كانوا “مغلوبا على أمرهم”، بدا في الخلفية رجل يحث طفلته بصوت مرتفع: “قولي لهم يا بابا.. أنا حبيبة.. ابنة بشار الأسد”!، فتنتفض الفتاة لترد بكل إصرار وتحد “لا، لا أريد أن أكون بنت بشار الأسد”، فيعيد الأب التأكيد عليها “مبلى (بالتأكيد) يا بابا.. بنت بشار الأسد”.
هنا يقترب منهما أحد عناصر الجيش النظامي قبل أن يسحب الأب ابنته من أمام كاميرا التصوير ويتوارى عن الأنظار.
لقطة معبرة إلى أبعد الحدود عن هذا الجيل الجديد في سوريا الذي ولد زمن القصف والقتل والتشريد والبراميل المتفجرة، جيل لم يعرف سوى هذه الأجواء ولم يسمع من والديه ومحيطه سوى دعوات اللعنة تلاحق من أوصل البلد إلى كل هذا الخراب وأوصلهم إلى كل هذا الذل والتشرد في وطنهم وخارجه.
كيف لطفلة لم تشاهد سوى ما شاهدته ولم تسمع سوى ما سمعته أن تقول فجأة وبدون مقدمات أنها “بنت بشار الأسد”! لو كان لنا أن نصطحب الأب وأطفاله إلى ملجئهم الجديد لسمعنا الأب وقد قرّع ابنته على ما فعلته به أمام الكاميرا لسمعناها تجيبه فورا أنها ما سمعت منه ومن أمها ومن جيرانها وأترابها سوى اللعنات والشتائم تصحب كل ذكر لبشار طوال سنوات حصار الغوطة الشرقية منذ أربع سنوات… فكيف يريدها أن تتحول فجأة إلى بنت له؟
الأطفال لا يكذبون… وهذه البنت صُدمت بالتأكيد من والدها إذ هو يطلب منها ما لم يكن يخطر على بالها وما يناقض تماما ما كانت تراه وتسمعه قبل الفطام وبعده.
أما الأب المسكين فهو ينتمي إلى جيل آخر، عاش ذل الاستبداد وسطوة المخابرات وفسادها ولما حلم بالتغيير وبيوم تنعم فيه بلاده بنسائم الحرية أصابه وأهله ما أصابه فلم يعد لديه من مانع أن يعود مرة أخرى إلى ما كان يعيشه لسنوات من طأطأة الرأس وإظهار الولاء الكاذب والهتاف بحياة الرئيس ووالده وأنجاله إن لزم الأمر ضمانا للسلامة وإنقاذا لعائلته من التهلكة.
لا أخال هذا الوالد المنكسر إلا رجلا استمتع لسنوات قليلة بكسر قيود الاستكانة والخوف، رغم شلال الدم، ليجد نفسه فجأة يعود إليه من جديد. لم يكن يتخيل ذلك لكنه جاهز للتأقلم معه من جديد بفعل الظروف القاهرة. وبين البنت الصادقة التي ولدت ونشأت متمردة، ورضعت ذلك من ثدي أمها، إن ظلت موجودة أصل، وبين والدها المجبر على إعادة ارتداء ثوب النفاق من جديد… يوجد قطاع آخر لا بأس به لم يستطع أن يكون لا هذا ولا ذاك، قطاع ظل عاشقا للنظام صادقا أو منافقا، صامتا أو متحمسا، مسايرا أو مزايدا.
قبل أربع سنوات ونصف تحدثت مي سكاف، الفنانة اليسارية السورية التي اعتقلت في مظاهرة الفنانين السوريين في دمشق واعتبرت في وقتها إحدى أيقونات الثورة السورية الصامدة في العاصمة، في مقابلة ممتعة نشرت في “القدس العربي” فقالت: “سألني مدون التحقيق: شو بدك إنت، بدك حرية؟ كان الضابط يسأل والمدون يسجل أقوالي في دفتره، وكان الضابط جادا في سؤاله فهو يريد حقا أن يعرف جوابا حقيقيا مني”.
تواصل كساب كلامها: قلت: ما بدي ابني يكون رئيسه حافظ بشار الأسد. توقف المدون عن التدوين ونظر في وجه المحقق خائفا من تلك الجملة. وفي نظرته سؤال حائر معناه: هل أكتب هذا؟ إذ ذاك أعدت عليه الجملة باللغة الفصحى ورجوته أن يكتبها في التحقيق باللغة الفصحى حرفيا: لا أريد لابني أن يرأسه ابن بشار الأسد. نظر مرة أخرى نحو معلمه فقال له الضابط: اكتبها…تخيل لم يجرؤ على كتابة ما قلت، صار يرتجف ونظر في وفي المحقق وكأن نظرته كانت تقول: أكتب أم أضرب؟
صحيح أن بشار الأسد لم يرحل بعد وقد تكون مي أو غيرها ولدن أبناء لم يردن لهم أن يولدوا ويترعرعوا و الرجل لم يفارق سدة الحكم بعد، لكن الأكيد اليوم أنه في هذه السنوات السبع المريرة التي حول فيها بشار الأسد ثورة سلمية إلى بركة من الدماء وحولت فيها تنظيمات إسلامية متطرفة ثورة مدنية تطالب بالحرية والكرامة إلى كابوس تقاتل بين فرقاء لا علاقة لهم بما كان يطمح إليه السوريون من انعتاق، في هذه السنوات نشأ جيل جديد لا يمكن لبشار الأسد أن يحكمه أبدا كما حكم آباءَهم أو كما حكم أبوه أجدادَهم. هذا كل شيء.