في زمن ماض، يبدو اليوم عصيًا على التذكر، كنت أجلس في مقهى الروضة في دمشق إلى طاولتي المعتادة، دخلت يومها إلى المقهى صبية بهية، ترتدي فستانًا فلسطينيًا مطرزًا، وكانت لهجتها الفلسطينية تدفئ القلب، وجلست مع أصدقاء مشتركين بيننا إلى طاولة مجاورة، عرفني إليها الأصدقاء: ريم البنا. كان الاسم مألوفًا والصوت مألوفًا أكثر، فمشوار ريم البنا الغنائي قد انطلق قبل ذلك بسنوات.
كانت ريم البنا كفنانة تتمثل قيم الفن الملتزم بقضايا شعبها، ودافعت بصوتها عن تراث فلسطين وغنت للأرض والإنسان الفلسطيني. وقد حتم التزامها ذاك بالإنسانية أن تقف ريم إلى جانب كل المظلومين، ولم تخيب آمال محبيها حين وقفت إلى جانب الثورة السورية ومظلوميها ضد ظالميهم وآلة القتل التي انفلتت من عقالها مثخنة في الشعب السوري.
رغم شهرتها الكبيرة في الوطن العربي كمغنية إلا أن شهرتها التي طبقت الآفاق كانت تلك التي تلت مرضها، فكانت ريم البنا رمزًا للشجاعة ومواجهة المرض، وكان كثيرون يستمدون الأمل وقوة المواجهة والإصرار مما كانت تكتبه على حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تكن الرسائل التي تكتبها ريم البنا على وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة بيانات عن الشجاعة والصمود، بقدر ما كانت بوحًا دافئًا تبثنا إياه بعد أن تدعونا إلى فنجان قهوة في شرفتها المطلة على أرض فلسطين المحتلة في الناصرة.
واجهت ريم المرض بإصرار ورغبة بالحياة، وقد يظن متابع الحكاية أن اليأس قد يتسلل إلى نفس مغنية إن فقدت صوتها، ولكنها واجهت تلك المرحلة برباطة جأش قل نظيرها، وقامت بعدد من المقابلات التي أوضحت من خلالها أنها ستكمل مشوارها لأن هدفها كان إيصال صوت المظلومين وأن هذا الهدف يمكن تحقيقه بكثير من الوسائل الإبداعية، وإن خذلها صوتها فإن إيمانها بالعدالة لم يخذلها.
رحلت ريم البنا، تاركة وراءها أبناءها الصغار، وتاركة لهم محبة لا تنضب من كثيرين، وصورًا كثيرة ملونة بألوان التطريز الفلسطيني وسماء الناصرة وابتساماتها. وتركت لنا أغانيها وصوتها الذي سيظل يصدح بأحلام الحرية والكرامة.
كانت ريم تتواصل مع معجبيها على وسائل التواصل الاجتماعي برسائل شخصية دافئة، وتمدهم بالقوة والأمل، وكثيرون ممن لم يلتقوا بها كانوا موعودين بشرب فنجان القهوة معها على الشرفة. اليوم، فنجان القهوة موضوع على الشرفة، ينتظر، تفوح منه رائحة المحبة، مطلًا على فلسطين، وريم البنا تجلس بفستانها البهي تشربه مع شهداء فلسطين والثورة السورية ومظلومي الأرض، وتنظر إلينا متأملة أن نكمل طريق البحث عن العدالة، وأن نحقق أحلامنا بالعيش بإنسانية وكرامة.